مقالات مختارة

أخرجوا قطاع غزة من أزمته الراهنة- منير شفيق

 

ما جرى في الأيام الفائتة في قطاع غزة من تظاهرات كان هتافها الأول “بدنا نعيش”، ومواجهتها بالقوة لمنع تدهور الوضع باتجاه انقسام داخلي خطير، وربما اقتتال أيضاً، يشكل أزمة وخطراً حقيقياً على مسيرات العودة الكبرى، وعلى المقاومة المسلحة التي وصلت إلى مستوى لا يجوز التفريط به، أو تعريضه للخطر. إن قيام تظاهرات تحت شعار “بدنا نعيش” في بلد يخوض حرباً ضد العدو الصهيوني يشكل خطأ جسيماً، ولا بد من أن يُستخدم لضرب المقاومة أو إرباكها .

أقدّر أن هنالك خطأ ما ارتكب منذ 2007 في قطاع غزة، حين لم تقم إدارة وقيادة مشتركة من الفصائل وممثلي المجتمع لتسيير شؤونه وحماية المقاومة فيه. أما في الوقت الراهن، فسيكون من الخطأ فرض ضرائب جديدة (إذا صح ذلك) تحت ضغط الحصار الإجرامي الذي يتعرض له القطاع، ولكن أن يُعالَج بالتظاهر المعادي ضد من يشكلون العمود الفقري للمقاومة المسلحة، ولقيادة مسيرات العودة الكبرى، فهو أمر بمقاييس الوطنية الفلسطينية المقاومة للاحتلال والمشتبكة مع الاحتلال، غير مقبول وخاطئ؛ لأن الوضع في قطاع غزة المحاصَر والمهدّد بحرب العدوان الصهيوني في كل لحظة، لا يجوز، إن لم يكن من الخطأ القاتل، فتح معركة داخلية في مواجهته.

لقد انتقل الوضع في قطاع غزة، في هذه المرحلة، إلى حالة تدهور لا يحتمل، ويجب أن يُعالج بكل صراحة وشجاعة وحكمة:

أولاً، من لا يعترف بأن ثمة حصاراً يستهدف مسيرات العودة الكبرى، ويستهدف اتفاق غزة وسلاحها، لا يكون منصفاً، ولا يكون محقاً.. ومن لا يعترف بأن هنالك داخل قطاع غزة من يريدون استغلال ما يتركه هذا الحصار من ضيق معيشي هائلعلى الجميع بلا استثناء؛ لا يكون على صواب في الوقوف إلى جانبهم في التظاهرات التي يرُاد لها أن تذهب إلى الصدام مع حماس في قطاع غزة. هذان الاعترافان يجب أن يعطيا الأولوية، ولا يُتبعان بـ”لكن” التي تفسد ما قبلها، فيُعترف بهما لذر الرماد في العيون تمهيداً للهجوم.

وثانياً، يمكن أن تُعتبر بعض المواقف التي ذهبت إلى إدانة حماس أو “السلطة” النافذة في قطاع غزة؛ بأنها استمرار لموقفها الذي يحمّل حماس مسؤولية مساوية لمسؤولية فتح في الانقسام، وهو الموقف الذي يساوي بين الطرفين في المسؤولية عن عدم الوصول إلى مصالحة، بين حماس وقيادة فتح، أي يساوي بالضرورة بين الوضع المقاوم في قطاع غزة، ووضع التنسيق الأمني في الضفة الغربية.. وهذا الاتجاه الذي يساوي بين الطرفين، ولو كان حسَن النية، وكان من جهة أخرى، معارضاً للتنسيق الأمني ولاتفاق أوسلو، فسياسته بدعم التظاهرات وإدانة حماس خاطئة وخطرة. وقد يُفاد منها لإضعاف مسيرات العودة والمقاومة. وللأسف، علا صوت البعض أكثر من صوت المتآمرين على قطاع غزة في إدانة حماس بسبب الأحداث الأخيرة، وذلك بدلاً من أن يقف ضد الذين زادوا الحصار حصاراً.

فالموقف هنا ليس موقفاً ينبع من الحق بالتظاهر فقط، وليس نابعاً من رفض استخدام القوة في مواجهة تلك التظاهرات فقط، لكنه ينبع أيضاً، وربما أساساً لدى البعض، من موقف ضد حماس أيديولوجي وسياسي وحزبي. فالسياسة تتضمن خلفيتها دائماً.

ثالثاً: أوَليس متناقضاً من جانب الذين يطعنون بالتظاهرات المليونية التي اندلعت في مصر ضد نظام حسني مبارك عام 2011، هم أنفسهم الذين يقفون بحماسة ملتهبة لا توصف بحرارتها؛ مع التظاهرات ضد حماس، وإن كان التساوي الجماهيري بين الوضعين غير قائم، كما أن المساواة بين نظام مبارك ومحوره من جهة، وبين حماس والمقاومة في قطاع غزة غير قائمة مطلقاً.

ولكن هنا، من ناحية أخرى، يتناقض مع نفسه ولو ظاهرياً؛ من وقف مع التظاهرات المليونية في مصر أو تونس، ولا يقف مع التظاهرات في قطاع غزة أو مع الحركات المسلحة في سوريا. هذا التناقض ليس مسوغاً هنا لأن التفريق بين الأمرين يستند إلى الموقف من السياستين التي تمثلهما السلطة في كل من الحالتين، كما إلى أين المآل. أما الذين لا يعتبرون الموقف السياسي والموقف من العدو الصهيوني هو المعيار الأول في الموقف الصحيح مما يجري في قطاع غزة أولاً، وفي أي وضع عربي ثانياً، فهم الذين عليهم أن يفسروا التناقض المذهل بين موقفهم في الحالتين المذكورتين، حيث هناك تشكيك في موقف الملايين وفي مواجهة نظام يدينونه بدورهم (نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي)، وحيث هناك دعم بالمطلق لبضعة آلاف في قطاع غزة؛ يتوجهون عملياً ضد خطأ ارتكبته حماس في زيادة الضرائب، إذا صح بأنها زادت الضرائب أو بالغت في الرد على التظاهرات. ولكن إذا صح موضوع زيادة الضرائب، فهو خطأ بكل الأحوال في ظروف الحصار الخانق الذي يُعاني منه أهل القطاع أشد معاناة. كما أن من الخطأ إطلاق تظاهرات عدائية تحمل في داخلها في ظروف القطاع التحوّل إلى صراع دموي.

على أن ما حدث في قطاع غزة خلال تلك الأيام، وما زالت ذيوله مستمرة، يجب أن يُعالَج بالحكمة والحزم. فزيادة الضرائب (مرة أخرى إن صحت) أمرٌ مرفوض من حيث المبدأ، ومرفوض من جهة حسن إدارة السياسة؛ لأنه مناسبة لتُستغل أبشع استغلال، ولأنها استفزاز للناس الذين يعانون من الحصار أكثر من غيرهم، وأغلب هؤلاء المتظاهرين جزء من المقاومة ومن الوضع المقاوم في قطاع غزة. أما الرد على التظاهرات فيجب أن يكون في حدوده الدنيا، وبتظاهرات أكبر منها، فالشارع يجب ألاّ يُترك للمتربصين.

أما الحل الجذري لاحقاً، فمن الضروري أن تبادر حماس إلى حوار جدي من أجل إقامة شراكة حقيقية لا شكلية ولا رمزية، في إدارة قطاع غزة، ما بين جميع الفصائل والقوى الاجتماعية المشاركة في الهيئة العليا لمسيرات العودة الكبرى، وذلك إلى جانب قيادة مسيرات العودة الكبرى، وإلى جانب الغرفة المشتركة.

هذا، وليتذكر الجميع كم من حالة ثورية دمرت نفسها بسبب سوء تقدير الموقف من جانب قياداتها ومعارضيها الثوريين، وبسبب استغلال الأخطاء من قِبل قوى الثورة المضادة، الواقفة بالمرصاد، والجاهزة لإسقاط القلعة من داخلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى