مقالات مختارة

وجهان لدونالد ترامب: منير شفيق

 

الانطباع الذي يتركه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للوهلة الأولى، أنه تفردي في رأيه، متسرع في اتخاذ قراراته وتعليقاته اليومية، كأنه “مغرد خارج السرب” يقول ما يحلو له، وليس رئيس دولة يفترض بها أن تكون دولة مؤسسات .

والتجربة مع قراراته، خلال السنتين الماضيتين، تشير إلى أنها قابلة للتراجع والتعديل، كما قابلة للعودة إلى سيرته الأولى، كأن ما جرى من تراجع وتعديل تحت الضغوط؛ انتهى فعله وتأثيره، (مثال موقفه من الانسحاب من سوريا). وقد تركت تجربته أثراً سلبياً من جهة علاقته بوزرائه ومستشاريه ومعاونيه، مما اضطر أكثر من ثلاثين مسؤولاً على الاستقالة أو الإقالة، الأمر الذي يدل على انفراد بالرأي وتحدي المؤسسة وقادتها حتى المعينين من قِبله.

ومن الانطباعات التي يتركها بأنه متعجل وارتجالي وعنيد ومعاند، ويستغل صلاحيات الرئيس، وما يسمح به الدستور والعرف إلى أبعد مدى، ولا يبالي إذا تعدى ذلك إلى حد تهديده باللجوء إلى تأنيبه، وفرض الاستقالة عليه، فقد رد بأن عواقب ذلك ستكون وخيمة في الشارع. فثمة مؤيدون له يتسمون بالتطرف الشديد، حتى اللجوء إلى السلاح والحرب الأهلية. وقد وصل الأمر بمحاميه السابق مايكل كوهين إلى التشكيك بتسليمه (ترامب) السلطة تسليماً سلساً إذا ما سقط في الانتخابات الرئاسية القادمة.

ومن هنا، برزت تساؤلات مثل هل يمكن للحماقة أو الغرور أو التعصب أن يذهب إلى هذا الحد، فيما طريق المساومة مع المؤسسة أسلم. وكذلك مع الإعلام، وحتى مع قطاع هام من حزبه ومن الحزب الديمقراطي.

لا يمكن لمن يتابع مواقف ترامب وسياساته وصِداماته الداخلية أمريكياً، والخارجية، ولا سيما مع حلفائه، إلاّ أن يتهمه بالحمق والغباء وقلة الدراية السياسية، وبأنه ذاهب بأمريكا وبالعالم إلى أزمات أخطر من الأزمات التي عرفاها حتى اليوم.

على أن هذا وجه للصورة وللحكم على دونالد ترامب، ومن ثم توقع طي صفحته إما بالتأنيب وإما بعدم التجديد له بعد انتهاء ولايته الحالية.

ولكن لماذا لا يؤخذ الرجل بجدية تتخطى الانطباعات وردود الفعل آنفة الذكر في فهم سياساته وموقفه؟

إن أخذه بجدية يفترض أن وراء كل تلك المظاهر في سياساته ومواقفه ثمة مشروع انقلابي يريده هو، كما يريده قطاع مقدر، وربما لا يقل عن أربعين في المئة من الأمريكيين “الواسبس” (البيض الأنكلو-سكسون البروتستانت)، في المقدمة المتصهينون منهم. وهؤلاء يمثلون قطاعاً محافظاً من الرأسمالية الأمريكية الإمبريالية والشعب الأمريكي في مواجهة ما آلت إليه المؤسسة الأمريكية والدولة العميقة والإعلام، من تمثيل للقطاع الرأسمالي الليبرالي الإمبريالي. فدونالد ترامب ليس مجرد فرد ذي نزوات شاذة يريد فرضها على الواقع الأمريكي، داخلياً وخارجياً. فلو كان مجرد فرد له شعبية لهان على المؤسسة ذات الأنياب أن تعالجه. فقد عالجت غيره من الرؤساء بالتدجين، أو بالتأنيب والإقالة، وحتى بالاغتيال والقتل. ولكن إذا كان وراء ترامب شعبية ذات مخالب، وراحت تنقم على ما آلت إليه الدولة، فالوضع مختلف، والصراع جاد وخطر، وما ينبغي له أن يُقرأ بخفة.

فكما يبدو من سياسات ترامب ومواقفه؛ أنه يمثل تياراً يريد أن يُحدِثَ تغييراً عميقاً في المؤسسات وفي الدولة العميقة، كما في الاستراتيجية الخارجية والسياسات الدولية. فما نحكم عليه من خلال السنتين الماضيتين هو رأس جبل الثلج العائم في المحيط.

وإلاّ كيف يفسَّر هذا الصدام غير المتوازن مع ممثلي الدولة العميقة في السي آي إيه، وفي الخارجية وفي البنتاغون، وفي جهاز القضاء وفي الإعلام. فلو أخذنا ما حدث من استقالات وإقالات في إدارته، لا سيما الذين جاء بهم هو نفسه، لوجدنا من جهة وجود شخصيات هامة استعدت للتعاون معه في ظل ما نشب من صراعات بينه وبين المؤسسات، وفي ظل ما عبر عنه من سياسات داخلية وخارجية، ولوجدناها من جهة أخرى لا تستطيع الذهاب معه إلى ما هو أبعد من نصف الطريق، فيما هو مصمم للذهاب إلى ما هو أبعد من نصف الطريق؛ لأنه يريد أن يقطع الطريق كله. فهذه النخب كانت طافية على سطح التيار الأمريكي الشعبي المتطرف الناقم الذي انتخب دونالد ترامب، والذي يهدد معارضيه بالويل والثبور إذا ما تجرأوا على تأنيبه وإقالته. فترامب (كما يبدو) يستلهم هؤلاء في القاعدة، وقد صمم على أن يمضي في رحلته حتى النهاية.

إذا كان أخذ ترامب بجدية يحمل درجة من الصحة في تقدير الموقف، فهذا يعني أن معركة ترامب الأولى داخلية أمريكية-أمريكية، وتسعى لإحداث تغيير نوعي في المؤسسات والدولة العميقة، وليس مجرد مناوشات، أو تناقضات داخل الطبقة الواحدة. وهو ما يحتاج إلى الفوز بالدورة الرئاسية الثانية حتى يكشف كل أوراقه، ويذهب إلى الحسم. هذا بالطبع إذا لم يُحسم الأمر ضده قبل ذلك أو في الانتخابات.

الأمر الثاني الذي يوجب أن يؤخذ فيه ترامب بجدية يتعلق بالسياسة الخارجية، وهو تركيزه على الصين باعتبارها المنافس، أو العدو “رقم 1” لأمريكا، ومحاولته الفاشلة حتى الآن للمساومة مع روسيا ضدها. ولكنه ما زال مشدوداً للتخبط في مواجهة السياسات الأمريكية العربية-الإسلامية، ولا سيما في مواجهة إيران والقضية الفلسطينية، وإشكالية التماهي مع الكيان الصهيوني، وهو ما يجعل سياساته الخارجية في مهب الريح.

وهكذا، مرة أخرى تقع توجهات الرئيس الأمريكي، كما الرؤساء الذين سبقوه بعد انتهاء الحرب الباردة، في فخ “إعادة تشكيل شرق أوسط جديد” في مصلحة الكيان الصهيوني واستراتيجيته، وذلك من خلال ما طرحه حول ما سمي بـ”صفقة القرن”، وهو الفخ الذي أبعد الرؤساء الأمريكيين عن التقدم باستراتيجية دولية تمس المنافسين الكبار القادمين بقوة (روسيا والصين)، كما على مستوى قوى إقليمية كبيرة (الهند، تركيا، إيران، جنوب أفريقيا).

صحيح أن ترامب يحمل مشروعاً داخلياً انقلابياً يميزه عن سابقيه، وقد أعطاه الأولوية، وصحيح أنه ذاهب للتركيز على الصين وروسيا أكثر من سابقيه أيضاً، ولكنه غارق في الآن نفسه، في حرب اقتصادية وسياسية ضد إيران، وفي مشروع “ناتو” عربي يحمل “صفقة القرن” المزعومة، في آن واحد مع التوجه ضد إيران. وبهذا ترتبك الاستراتيجية الأمريكية في تحديد اولوياتها.

في ما يتعلق بالداخل الأمريكي يعرف ترامب ما يريد، ويعرف أولوياته، وهو ذاهب بهذا الطريق كالقطار السريع. وبالنسبة إلى الصين وروسيا، فواضح دخوله في سباق تسلح مع روسيا، كما كان الحال في مرحلة الحرب الباردة. وأما مع الصين، فجعلها بالدرجة الأولى اقتصادية وتجارية واتصالاتية، ولا سيما مع شركة هواوي، بمثابة الحرب.

يبقى الإرباك في ربطه الحرب على إيران و”صفقة القرن” التي لم يعلنها بعد. وقد واجه العزلة والفشل السياسي في أولى خطواته عندما أعلن القدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني ونقل سفارته إليها، مما أدى إلى قطع علاقاته بمحمود عباس، وانعزاله حتى عن أوروبا، وعدم تجرؤ أي من الحكام الأنذال المهرولين المطبعين على إعلان الموافقة على سياساته. فكلما أوغل في الموضوع الفلسطيني كلما صُدم بحائط الفشل، ولن يكون مصير مواجهته لإيران إلاّ الفشل كذلك.

ولهذا خطورة دونالد ترامب تكمن، بالدرجة الأولى، في ما يمكن أن يحققه في أمريكا نفسها، وهو البُعد الذي يجب أن يُراقَب جيداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى