مقالات مختارة

منير شفيق: لم يكتفِ الإمام بالشرعية الثورية وأصرّ على الشرعية الشعبية عبر الانتخابات- وليد شرارة

 

أربعون سنة مرّت على الزلزال الذي ضرب النظامين الإقليمي والدولي، عندما ثار الشعب الإيراني بقيادة الإمام الخميني، وأسقط الشاه محمد رضا بهلوي، «شرطي الخليج»، والحليف الأبرز للولايات المتحدة، إلى جانب إسرائيل، في الشرق الأوسط. الاستقطاب الحاد الذي تسبّبت به الثورة، والمستمرّ إلى اليوم بين الأنصار والحلفاء من جهة والأعداء والخصوم من جهة أخرى، لم يمنع جميع هؤلاء من الإجماع على حقيقتين محوريتين: الأولى هي الدور المركزي الذي لعبه الإمام الخميني في قيادتها في ظروف بالغة الصعوبة ضدّ أحد أعتى وأقوى الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، والثانية هي أن مواقف الإمام من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ما زالت ثوابت مبدئية تحكم الاستراتيجية العامة لإيران بعد أربعة عقود على الثورة. صمود الجمهورية الإسلامية في إيران، وقوتها المتزايدة، هما من نتائج النجاح في ترسيخ هذه الثوابت، وفقاً لما يراه القيادي والمفكر الفلسطيني، منير شفيق، الذي عرف عن قرب عدداً من قادة الثورة، وفي مقدّمتهم الإمام الخميني .

يرى شفيق، في حوار مع «الأخبار»، أن إدارة الإمام الخميني للصراع مع نظام الشاه، منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية في إيران، خرجت عن المألوف في التقاليد السياسية للحركات الثورية. وقد «نشأت علاقات بيننا وبين شخصيات مقرّبة من الإمام الخميني قبل الثورة بمدة طويلة، أبرزهم جلال الدين الفارسي والشهيد أحمد صالح الحسيني. كنا نتحاور باستمرار، وعرفت من خلالهما وجود حركة ثورية يقودها الإمام الخميني. كان موقفنا داعماً للمعارضة لنظام الشاه، أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة. أغلبية التيارات في الساحة الفلسطينية كانت علاقاتها مع اليسار الإيراني. تيارنا كانت له أيضاً صلات باليسار، كحزب توده الثوري الماوي التوجّه والمنشقّ عن الحزب الشيوعي، وبقوى أخرى مثل تيار مهدي بازركان. عندما بدأت الثورة، وأضحى من الواضح أن الشاه عاجز عن قمع الاحتجاجات الشعبية، وأن الإمام الخميني هو قائدها الحقيقي، بدأت العروض تنهمر عليه لإيجاد حل وسط للصراع، كاقتراح تشكيل حكومة تكنوقراط مثلاً. لكن الإمام كان يطرح شعاراً واحداً: يجب أن يرحل الشاه. ولم نسمع منه بعد ذلك أي شعار آخر، وبقي يدافع عن الموقف نفسه رغم المحاولات المتكررة للتفاوض معه، وعرض رحيل الشاه، وتأسيس مجلس وصاية على العرش، أو تشكيل حكومة برئاسة شهبور بختيار، المحسوب على المعارضة الليبرالية. كنت أتساءل في تلك الفترة عن أسباب هذا الموقف، خاصة وأن تقاليد العمل السياسي لدى الحركات الثورية كانت تبقي باب المساومات مفتوحاً. وعندما ركب الشاه الطائرة للرحيل، اتخذ الامام قراراً خطيراً بالاتجاه إلى طهران عبر الطائرة. تبين أن هذا القرار ذكي وصائب في التوقيت والنتائج. سُئل الإمام بعد ذلك عن موقفه من حكومة بختيار المكلّفة إدارة أمور البلاد بعد ذهاب الشاه، فقال لهم إن بختيار غير شرعي. قسم من المعارضة، كتوده الثوري مثلاً، كان مستعداً للقبول ببختيار على أساس أنه ديمقراطي وسيسمح بحريات سياسية. أما الإمام الخميني، فقد عيّن حكومة مؤقتة برئاسة مهدي بازركان، الذي لم يكن ممثلاً لخطه، وشكّل اختياره نوعاً من المساومة. بدأت ألحظ عندها أن الشعارات التي رفعها لم تكن تعبّر عن تشدد ولا عن افتقاد للمرونة، وإنما هي نوع آخر من الواقعية، إذ إنها شعارات مقبولة في إيران، ومدروسة وممكنة التحقيق. القبول ببازركان عنى عملياً احتضان الكثير من القوى الاجتماعية التي كان من المحتمل أن تخاف من الثورة».

لم يكتفِ الإمام بالشرعية الثورية، بل أصرّ على ضرورة اكتساب الشرعية الشعبية عبر الانتخابات: «كان خطّ الإمام يتمتع بشرعية ثورية كافية للإعلان عن الجمهورية الإسلامية، لأن عشرات الملايين نزلت إلى الشوارع هاتفة باسمه. لكنه حرص على الاستفتاء الشعبي، وقامت الجمهورية الإسلامية بقرار شعبي. الحركات الثورية كانت قبل ذلك تعتبر أن الشرعية الثورية كافية لتستلم السلطة وتقيم نظامها السياسي. أما في إيران، فقد اختار الشعب نظامه باستفتاء حرّ ونزيه، لم يشكّك فيه أحد. الأمر نفسه انطبق على الدستور، الذي صيغ بعد انتخاب مجلس دستوري، ومن ثم نُظّمت الانتخابات الرئاسية على أساسه، وكذلك الانتخابات النيابية. وأتى تشكيل مجالس أخرى، كمجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ليستكمل عملية تشييد لبنية سياسية فريدة من نوعها. استغرب الكثيرون يومذاك أن يفكر عالم دين بهذه الطريقة، وأن يقود الثورة انطلاقاً من حسابات شديدة الدقة، وكذلك عملية بناء النظام الجديد. توصّلْت إلى قناعة في ذلك الوقت بأننا أمام ظاهرة فريدة وفذّة تبتعد عن التقليد، وأنها نتاج لاستراتيجية مفكَّر بها جيداً أخذت في الاعتبار تجارب الشعوب الأخرى».

في إيران اختار الشعب نظامه باستفتاء حرّ ونزيه لم يشكك فيه أحد

الموقف من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، برأي منير شفيق، أظهرا عمقاً في تحليل طبيعتهما غاب في معظم التحليلات السائدة حولهما. «موقف الإمام الخميني من قضية فلسطين لم ينطلق من مجرد التعاطف مع شعب شقيق. ما ميّزه برأيي هو وصفه الكيان الصهيوني بالغدة السرطانية. كنا جميعاً آنذاك نرى فيه قاعدة للامبريالية، لكنني، بعدما تأملت في الموضوع، اقتنعت بأن موقف الإمام كان أكثر عمقاً من تحليل اليسار. الكيان هو بالفعل قاعدة للامبريالية، لكن هذه الوظيفة ليست صفته الرئيسية. تكوينه الصهيوني هو الصفة الرئيسية. أي قاعدة عسكرية من الممكن أن تُبنى، ومن ثم أن تُغلق وتزال، وهذا ما حصل مع الكثير منها. أما في حالة الكيان، فهو قد عزّز وضعه مع مرور الزمن، وتوسّع، وباتت لديه حيثيته الخاصة، ولم يعد مجرد وكيل أو رديف. لقد لعب الكيان الصهيوني في مراحله الأولى دوراً وظيفياً في خدمة القوى الامبريالية التي ساهمت في إنشائه، ولكنه لم يبق كذلك. مكوّنه الصهيوني ذو طبيعة سرطانية بالنسبة للشعب الفلسطيني وللشعوب المحيطة، ولا مجال لحلول سياسية معه. كل المساومات التي جرت معه والتنازلات التي قُدمت إليه لم تُجدِ نفعاً، وبقي عازماً على استيطان كلّ فلسطين وحتى جوارها لو تمكّن من ذلك. لا مجال للتعامل معه إلا باعتباره سرطاناً. كانت رؤية الإمام أكثر جذرية وثورية وعلمية من رؤيتنا، ومن رؤية الإسلاميين كذلك. الأمر نفسه ينطبق على وصفه أميركا بالشيطان الأكبر. الشيطان هو المسؤول عن كل الشرور في العالم من منظور قرآني. هذا الوصف برأيي أخطر من النظر إليها على أنها مجرد قوة امبريالية. هذا التعبير غير مستند إلى علم الاقتصاد أو علم الاجتماع فقط. هو وصف شبيه بوصف الكيان الصهيوني بالسرطان. أميركا ليست قوة مسيطرة تنهب العالم، بل تقوم بتعميم الخراب أيضاً بما فيه تخريب البيئة. والأهم من ذلك هو كيفية التعامل معها إذا اعتبرناها شيطاناً أكبر. هل نسعى للتصالح والتفاهم معها؟ لقد أغلق الإمام الباب أمام أي مساومة مع أميركا. لقد عمّق هذا التوصيف لأميركا العداء الإيراني لها، بينما تسعى العديد من الأطراف الأخرى للتخفيف من حدة الموقف منها، والتفاوض معها للتوصل إلى تفاهمات على الأقل».

ولكن هل انطلق هذا الموقف من اعتبارات فكرية، وأخرى خاصة بالتجربة الإيرانية مع أميركا والانقلاب على مصدق ودعم نظام الشاه؟ «ربط الإمام الخميني بين الاستراتيجية الكبرى للجمهورية الإسلامية في إيران، واعتبار إسرائيل غدة سرطانية ينبغي اجتثاثها، ورفض المساومات مع الولايات المتحدة. المسألة غير مقتصرة على دروس التجربة الإيرانية، بل على اعتقاده بوجود خطرين مميتين بالنسبة للعالم العربي والإسلامي. لقد أعطى تعريفاً لطبيعة العدو، وضَمِن أن تكون لإيران استراتيجية لا تسمح بالتلاعب بالثوابت الأساسية. من يرد إعادة النظر في هذين الثابتين، عليه الشروع بقطيعة مع خط الإمام. لسنا أمام نص نظري فقط أو رأي، بل أمام ركيزتين من ركائز الاستراتيجية العامة لإيران. فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي طليعتها فتح، تأسّست على قاعدة تحرير كامل التراب الفلسطيني، ولكنها وصلت إلى القبول بفكرة التسوية مع الكيان الصهيوني مقابل دولة أو دويلة، حتى انتهى الأمر باتفاق أوسلو وما نجم عنه. ليست مصادفة أن البلد الوحيد في العالم حتى الآن الذي لا يعترف بالكيان الصهيوني، وما زال يرفع شعار إزالته، ومستعد لدعم أي مقاومة ضده، وهو يخوض فعلاً مواجهة معه هو إيران. لماذا تتميز إيران بهذا الموقف حتى عن الدول العربية وعن العديد من الفصائل الفلسطينية؟ لأن الامام الخميني رسّخ هذا الموقف باعتباره موقفاً عقائدياً وشرطاً لوجود الجمهورية الإسلامية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى