مقالات مختارة

سواد الصحافة وبياضها العميد منير عقيقي

الزحف البطيء، لكن الحثيث، الى موت الصحافة ما عاد يمكن انكاره، ولا حتى التخفيف من وطأته وبشاعته وحدته بـ”تصريح استنكار” من هنا، او “بيان اسف “من هناك. ولا عادت علامات الاعجاب على منشورات التواصل الاجتماعي قادرة على تأجيل اعلان هذا الموت القبيح الذي نال من مهنة ومن مهنيين.

وطأة هذا الموت وقسوته ليست مقصورة على اعتباره يبدد مهنة، او انه اقفل “باب رزق” لمحررين وكتّاب وصحافيين. على اهمية هذين الامرين وارتداداتهما الاجتماعية، يبقى ان موت الصحافة يعني موت سلطة اخلاقية في وجه السلطات في ممارسة الحكم. لا بل اكثر ،فموت الصحافة يثير الرعب في النفوس جراء مشهدين متقابلين. الاول يتعلق بالقارىء نفسه. اما الثاني فيتصل بشدة بالحكم ونزوعه التلقائي او العفوي الى التحكم بدلا من الحكم. ذلك ان الصحافة لطالما كانت الرقيب والحسيب الذي يوقظ الضمائر وينبه الى المخاطر. هذا الدور يبدو انه الى افول.

الموت الصحافي الذي نحن في صدده كان الاعلان الاكثر فظاظة عنه، هو في صدور جريدة “النهار” ببياض ينذر بسواد عميم يبدد ما كانه الحبر الاسود ذات يوم، وهو يخط آفاقا من الشفافية والبياض حول واقع الدولة ،ومآلات الحكام والمحكومين على حد سواء. لقد سبق هذا “الموت الصحافي” اعلانات متقطعة عن انهيار كبريات الصحف في لبنان الذي لطالما اتسم وتميز بحرياته الصحافية التي وصلت او بلغت في احيان كثيرة حد الفوضى، واضاعت الفوارق بين معنى الحرية وبين ويلات الفوضى. ولئن اضطلعت بعض الصحف ،وبادوار متفاوتة، بدور المنصة لهذ الدولة او تلك .لكن كل هذا لا يعفي من مهمة الوقوف عند فضائل ووجوب بقاء الصحافة كـ”سلطة” اساس مهمتها “الرقابة الاخلاقية والسياسية”، ما يضع النظم الديموقراطية امام مسؤوليتها الدستورية والحقوقية والسياسية وحتى الاخلاقية لتجديد ذاتها بحثا عن الترقي والتقدم للبقاء في مربع الدول الناجحة.

مسلسل “الموت الصحافي” هذا باتت خواتيمه قاب قوسين او ادنى من النهاية الحتمية. الحيلولة دونه صارت مستحيلة ومحل استعصاء. قبل موقف جريدة “النهار ،”توقفت “دار الصياد” العريقة، وسبقتها جريدة “الاتحاد “بعد جريدة صوت الذين لا صوت لهم “السفير”. اما الصحف التي تواصل الصدور فتكابد باللحم الحي ،وليس من شيء في الافق ما يوحي بأن الاستمرار مضمون ،خصوصا في ظل انعدام وجود اي “تشريعات انقاذية.”رب قائل ان موت الصحافة الورقية في لبنان سببه الصحف نفسها التي ما عادت تستثمر في المفاهيم ولا في الاشخاص، وما عادت تحترف اطلاق مبدعين يمعنون تمحيصا وتحليلا في الوقائع والمقاربات بما يقدم للقارىء جديدا سياسيا او خبريا اكثر حضورا مما تقدمه منصات ووسائل التواصل الاجتماعي. وهذا بعضه او الكثير من بعضه صحيح. رب قائل ايضا ان ما حصل وسيحصل لا يستدعي هلعا في ظل نمو الصحافة الرقمية )الالكترونية( .وهذا صحيح ايضا لو ان الاخيرة اخذت مساحة وفرضت وجودها كما هو حاصل ومحقق عند الدول المتقدمة .لكن وقائع الامور تدل على غير ذلك تماما. فالمشكلة عندنا مزدوجة وتتوزع على اثنين هما: القارىء الذي صار يكتفي باشعارات خبرية من هذا الموقع او تلك المنصة ،وعلى السوق الاعلانية بوصفها موردا اساسيا لكل الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع والالكتروني. هذه السوق لم تعد تقدم الا النذر اليسير بسبب الاوضاع الاقتصادية.

في بلد لم تُحَل مشاكله الاقتصادية بعد، فإن توقع صمود الاعلام ككل، انما يندرج في خانة الهذيان والهلوسة ،خصوصا وان نقابتي الصحافة والمحررين ومعهما وزارة الاعلام تقف عاجزة عن ابتكار واجتراح الحلول. والى ان يقضي الله امرا كان مفعولا، سنبقى نتابع بعجز قاتل زحف الموت نحو الصحافة، وسنبقى نتنقل بين مشهد بوجهين هما بياض الصحافة وسواد ايامها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى