مقالات مختارة

قضية الخاشقجي ومَن يحمي بلاد الحرمين: زياد حافظ

 

قضية الخاشقجي، الصحافي الذي اختفى بعد دخوله قنصلية بلاد الحرمين في اسطنبول، والملابسات التي أحاطت باختفائه قد تشكّل نقطة تحوّل في العلاقات الأميركية التركية والعلاقات الأميركية مع حكومة الرياض. والحملة الإعلامية الغربية وفي طليعتها صحيفة «الواشنطن بوست» المقرّبة جدّا من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تهدف إلى وضع مسافة بين الإدارة والحكومة في الرياض في الحدّ الأدنى أو التخلّي كلّيا عن المملكة في الحد الأقصى. وسيظل السجال بين الحدّين لفترة من الزمن إلى أن تتبلور معادلات محلّية، وعربية، وإقليمية، ودولية تستطيع من رسم مستقبل بلاد الحرمين التي دخلت مرحلة عدم استقرار بنيوية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي .

فالملابسات التي رافقت قضية الاختفاء وثم قتل الصحافي كانت لها تداعيات مباشرة على سمعة بلاد الحرمين بشكل عام وسمعة ولي العهد بشكل خاص. بالنسبة لنا، لا تمكن مقاربة ما حدث إلاّ من منظور سياسي استراتيجي وليس من باب الحدث بحدّ ذاته رغم أهميته ودلالاته على سلوك النخب الحاكمة وطبيعة النظام القائم في بلاد الحرمين. وعلى ما يبدو فهناك محاولات حثيثة تُبذل لضبط إيقاع تلك التداعيات على الأقل في المدى المنظور على دور ولي العهد والعلاقات مع الولايات المتحدة وتركيا بشكل خاص، وذلك منعاً لخصوم الولايات المتحدة في الإقليم من الاستفادة من الحدث. الهدف الأساسي من كل تلك المحاولات هو منع التغيير في سياسات حكومة الرياض بعد تغريدة تركي الدخيل المقرّب من ولي العهد والذي هدّد بقلب الطاولة على الجميع إذا ما استهدف ولي العهد والمملكة. صحيح أنه تم سحب المقال غير أنه يمكن القول إن أدّى الوظيفة المطلوبة في حثّ كل من واشنطن وانقرة على التريّث في توجيه الاتهامات. فعلى ما يبدو هناك صفقة متعدّدة الأضلاع دولياً وإقليمياً تُعد لتجاوز الحدث.

فعلى صعيد الإعلام الأميركي تراجعت القضية إلى الخلف حيث حلّت مكانها قضية الطرود المشبوهة التي وصلت إلى رموز معارضي الرئيس الأميركي. كما أنه بعد أقل من أسبوعين ستُجرى الانتخابات النصفية الأميركية وبالتالي الاهتمام في قضية الخاشقجي سيتراجع أكثر فأكثر. تبقى صحيفة «الواشنطن بوست» التي ما زالت قضية الخاشقجي تشغلها لأنه «واحد منهم». وأهمية الصحيفة تكمن في العلاقات العضوية التي تربطها بوكالة الاستخبارات المركزية والعقود التي تمّ إبرامها العام الماضي بقيمة 600 مليون دولار بين الوكالة والصحيفة للقيام بخدمات معلوماتية للوكالة. لكن الحملة على كل من الرئيس ترامب وولي العهد في المملكة والعلاقة بين الولايات المتحدة وبلاد الحرمين لن تغيّب مدى الكارثة الجيوسياسية التي تواجهها الولايات المتحدة في حال سقوط الأسرة الحاكمة في الرياض بعد تراكم الأخطاء المميتة التي ارتكبت خلال السنوات الماضية. فالسقوط المحتمل في المدى المنظور إذا نجحت الحملة التي يقودها الإعلام الأميركي ومعه بعض القوى السياسية في الولايات المتحدة فستفضي إلى كارثة مشابهة لسقوط الشاه عام 1979. لذلك من المستبعد أن تسمح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بحصول ذلك. ومن هنا نفهم محاولات استيعاب تداعيات الجريمة التي ارتكبت في القنصلية في اسطنبول.

ومن هذه الزاوية يجب فهم الهجمة التطبيعية في بعض الدول في مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها زيارة رئيس وزراء الكيان لسلطنة عمان. الهلع الذي يسود في الولايات المتحدة والكيان الصهيوني من خسارة ورقة بلاد الحرمين تجعلهما يسرعان في تمرير ما يمكن تمريره لما يُسمّى بـ «صفقة القرن» عبر محاولات يائسة أو لإحياء حلّ الدولتين كما جاء على لسان وزير خارجية السلطنة والذي لا يريده الكيان. فالمأزق الاستراتيجي الذي وقع فيه كل من الولايات المتحدة والكيان يجعلهما حرق ما تبقّى من أوراق في الجزيرة العربية وخاصة بالنسبة لسلطنة عمان التي كانت تحظى بهالة من الحكمة والتعقّل في ملفّات شائكة كالملف الإيراني والسوري واليمني.

نسرد هذه الملاحظات لأن حادثة جريمة القتل قد تكون القشّة التي قصمت ظهر البعير. قد يستطيع ولي العهد في بلاد الحرمين تجاوز شبهات التهمة المباشرة له بسبب أوراق عديدة يمتلكها كالتهديد بتغيير السياسات كما جاء في مقال تركي الدخيل غير أن الهيكل الذي يعيش فيه ويحميه قد ينهار إن لم تحصل تطوّرات درامية وجذرية في السياسة. لسنا متأكدين أن تغييراً في الأشخاص قد يفي بالغرض المطلوب بل التغيير في السياسات هو الذي يجب أن يحصل. لكن ذلك التغيير في السياسات رهن عوامل متعدّدة يصعب ضبط إيقاعها. العامل الأول هو عدم جهوزية «بديل» عن ولي العهد في ظل وجود والده الملك سلمان. وعدم الجهوزية تعود إلى الخلافات داخل الأسرة الحاكمة التي رافقت تنصيب ولي العهد. فالانقسامات التي ظهرت تشير إلى صعوبة بالغة في الحصول على إجماع في مبايعة ولي عهد جديد يفرضه الملك كي تستمرّ السياسات التي تريدها الولايات المتحدة. بالمقابل، فإن استمرار السياسات القائمة مع ولي العهد الحالي هو استمرار للفشل. فلا التغيير ممكن حالياً ولا الاستمرار في السياسات الحالية.

على الصعيد الخارجي هناك عوامل عدّة تهدّد مكانة بلاد الحرمين. فالعامل التركي يسعى إلى استغلال المأزق في نظام حكومة الرياض لتنصيب تركيا زعيمة للعالم الإسلامي. والابتزاز الذي تمارسه حكومة أنقرة تجاه كل من الرياض وواشنطن دليل على ذلك. فهناك قناعة أن حكومة الرياض أخفقت في تحقيق الأهداف المرسومة لها على صعيد الملفات العراقية والسورية واليمنية وخاصة الملف الفلسطيني لتمرير صفقة القرن. كما أن فقدان حكومة الرياض للورقة الباكستانية مع انتخاب عمران خان جعل آفاق زعامة العالم الإسلامي مفتوحة. والحالة شبيهة لتلك التي تلت إنهاء السلطنة العثمانية في الربع الأول من القرن الماضي حيث التنافس على زعامة العالم الإسلامي بين أسرة محمد علي وآل سعود والهاشميين ساد المشهد الإسلامي حتى ثورة 23 يوليو 1952. فالعالم الإسلامي دخل في حالة عدم استقرار وعدم توازن خاصة أن الدولتين اللتين تستطيعان قيادة العالم الإسلامي غير جاهزتين في المرحلة الحالية. فالجمهورية الإسلامية في إيران لا تحظى بإجماع إسلامي كما أن مصر التي تخلّت عن دورها في الصراع العربي الصهيوني يجعلها غير مقبولة في استعادة زمام الأمور على الصعيد العربي وبالتالي الإسلامي. من هنا يعتقد الرئيس التركي أن باستطاعته إعادة عقرب التاريخ إلى الوراء وإعادة دور العثمانية إلى الصدارة. وهذه الطموحات ترتكز إلى جماعة الإخوان المسلمين في العديد من الدول العربية لتثبيت تلك الزعامة. غير أن إخفاقات الجماعة في الدول العربية وما سببته من دمار وآلام يفقدها المصداقية لتحقيق طموحات الحكومة التركية.

العامل الآخر على الصعيد الخارجي هو ضعف الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة اليوم غير الولايات المتحدة التي أعادت شاه إيران إلى العرش في الخمسينيات من القرن الماضي، وغير الولايات المتحدة التي اعتمدت بلاد الحرمين كبديل لإيران بعد سقوط الشاه. فالضعف الأميركي تبيّن في مقاربة الملفات الثلاثة الإيراني والعراقي والسوري، حيث تتجنّب الولايات المتحدة التورّط مباشرة وعسكرياً. وضعف الولايات المتحدة يتلازم مع ضعف الاتحاد الأوروبي رغم محاولات بعض الدول المحورية فيه كفرنسا وألمانيا من لعب دور أساسي في مقاربة الأزمات. فدورها رهن بالتسليم بالمعطيات الجديدة كصعود روسيا والصين ودورهما في قضايا الشرق الأوسط.

إذن الضعف الأميركي يواجه تحدّياً كبيراً في الإيفاء بالتزامات الدفاع عن المملكة والأسرة الحاكمة. فالابتزاز والإهانات الموجّهة للأسرة الحاكمة من قبل الرئيس الأميركي ترامب يقابله موقف في الكونغرس أقلّ تفهّماً للعلاقة مع الأسرة الحاكمة. فهناك من يعتبر أن العلاقة غير ذات جدوى ولا داعي للولايات المتحدة أن تتحالف مع ما يسمّيه المنتقدون في الكونغرس التحالف الاستراتيجي القائم لأنه يضّر بـ «سمعة الولايات المتحدة»، ولكن الأهم هو إخفاق المملكة بتمرير «صفقة القرن». صحيح أن الكيان الصهيوني يحرص على ألاّ يحرج بلاد الحرمين عبر الضغط على ولي العهد في مسألة قتل الخاشقجي غير أن زيارة رئيس الكيان لسلطنة عمان تشير إلى أن الكيان مستعدّ للتفاهم مع «بديل» آخر، وإن كان وزن «البديل» أقلّ بكثير من وزن بلاد الحرمين.

كل ذلك يؤكّد موقف المؤتمر القومي العربي وما رددناه مراراً أن حماية أي قطر عربي لن تحصل عبر تحالفات مشبوهة، أو عبر السماح لقواعد عسكرية لدول لا تريد الخير لشعوب المنطقة، ولا انتهاج سياسات «ترضي» الأميركي والكيان. إن ما يحمي أي قطر عربي هو أولاً التصالح والتفاهم مع شعبه، وثم التفاهم والتصالح مع الجماهير العربية الواسعة، وأن ذلك التصالح يمرّ أولاً عبر إيقاف الحرب العبثية على اليمن وثانياً عبر إيقاف دعم جماعات التعصّب والغلو التي تفتك في معظم الأقطار. لكن المعيار الأساسي لمصداقية أي تحوّل في السياسة هو الالتزام بقضية الشعب الفلسطيني وتأمين عودته إلى دياره بعد 70 سنة من الشتات. المثل اللبناني قائم حيث التفّ الشعب اللبناني حول جيشه ومقاومته فدحر المحتّل الصهيوني وصمد أمام عدوانه. فهل مَن يعتبر في المملكة؟

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى