مقالات مختارة

ألإ تذكّركم إصبعه بالحروب الكونيّة؟ د.نسيم الخوري

لا تقرأوني خطأً، لأنني من الباحثين العلمانيين الذين لا يقدّسون الماضي وهم يرون حتّى في تقنيات العولمة، مثلاً، مصدراً لهزائمنا وأمراضنا، ولأنني أؤمن بالثنائيات في الفكر والحضارة وكنت من المبشرين في كتاباتي وأبحاثي بنهاية العولمة أو حتى عدم حدوثها أساساً وذلك مع عزّ سقوط مصطلحات استراتيجية أساسية من أذهاننا من فوق القمم مثل العروبة والوحدة العربية والإسلامية وسقوط مصطلح العالم الثالث في مناخات ظلامية بإدانة العولمة والتهجم على مظاهرها وفعاليتها وقوتها وإطلاق مصطلحات مناقضة لها مثل العوربة حيث تقف ثقافة في وجه ثقافة وديناً في وجه دين آخر.

وكان لبنان ومايزال رائداً في المجالات السطحيّة السخيفة المعجونة بسخف السياسيين والسياسة وهزالهم وجشعهم بالكتابة والإعلام والفساد إلى درجةٍ يفترض تدوينها للتاريخ المستورد وللأجيال المقبلة:

إطلاق برنامج تلفزيوني في لبنان يتجاوز في أهميته إطلاق مركبة فضائية أو قمر إصطناعي نحو الفضاء. يا للغنم ويا للأغنام.

ماذا يكتب مفكّر غربي أو عربي مقيم في الغرب عندما يسمع أردوغان رافعاً سبّابته مهدّداً أوروبا والعالم بالخراب عبر فتح بلاده خزّاناً للإرهاب الإسلامي فتيلها جاهز في محافظة إدلب شمالي سوريا بما يتجاوز في مخاطره جهنّم في رأيه؟ سؤآل إبتزاز العالم طرحته، بالرغم من أجواء التطرية والتهدئة هناك، على طاولة نقاش أساتذة جامعيين ومفكرين حول نقطة شبه ختامية للربيع العربي تتحاشر فيها معظم قوى العالم ودولها وجيوشها ومصالحها، وتتحاصر فوقها تجمّعات من المدنيين والقوى والفصائل الإرهابية.

الجواب السطحي المختصر أعاد النقاش فوراً الى الحربين العالميتين عندما فتحت أبواب أوروبا على مصراعيها لتدفّق المقاتلين من البوابتين العربيّة والإسلامية لجهتي الشرق والجنوب في البحر الأبيض المتوسط ووعر أفريقية وصحاريها نحو الشمال .

طبعاً حضرت هذه الصورة في تداعيات دموية وسقط فكر الألفية الثانية على السلام وانتفاء التاريخ أو الصدام المستقبلي العنفي والإنفعالي الذي يعني صراع الثقافات والديانات. وتركّز النقاش حول إنكفاء صراع الإيديولوجيات الذي شغل العقول وكان عنواناً إحتلّ فكر القرن العشرين وسقطت معها أيضاً أفكارصراع القوميات عنوان القرن التاسع عشر، وتسقط معها اليوم بقايا نظرية صدام الحضارات الراهن التي طغت على الإهتمام الفكري في الدنيا.

ها نحن مجدداً نشهد بعث صور لا تنتهي من الدماء البشرية التي يفترض ألاّ تعرف اليباس في جسد الكوكب وكأن سقوط الجدران الكثيرة والهياكل والأنظمة واندثار الحرب الباردة واستشراف عالم حر مسائل ما زالت مستعصية فعلاً على العقل البشري.

بهذا المعنى سقط المثلث الفكري المتساوي الأضلاع الذي شغلت زواياه ثلاثة إحتلّوا مساحات كبرى من نقاشاتنا ونصوصنا بإسم حوار الحضارات. إنتفى فكر فرانسيس فوكوياما الياباني الأصل الأميركي الجنسية القائل بنهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية على الكوكب وفق ملامح الإنسان الأميركي الرقمي الأخير. وإندثر فكر روجيه غارودي الفرنسي الذي رغب الجمع بين الحضارات متأثّراً بالمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي أقام بدوره في حضارة الإسلام والمسلمين للخروج من الثنائية الحادة المدمّرة والقائلة بزوال الغرب الأوروبي الى كوكب التفاهم والحوار بين شعوب العالم. أين تقع تركيا- أردوغان من أميركا المشغولة بشيخوخة أوروبا التي يجهد الرئيس الفرنسي ماكرون الإندفاع بها نحو إستعادة عظمتها بعد ترهل وحدتها وموقفها من الخيارات الصعبة تجاه إيران وتركيا وصولاً الى الشرق الأقصى.

وبرفعة الإصبع الأردوغانية تلك عاينا ونعاين الخروج النهائي أيضاً من مقولات صموئيل هنتنغتون المفكر والنجم العالمي الأميركي في صراع الحضارات السبعة الصينية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية واللاتينية الأميركية والأفريقية التي ستزول لشرعة الأقوى كما روّج ولن يستمر منهاحتى النهاية منها سوى حضارات ثلاث الغربية والإسلامية والكونفوشيوسية ، مع العلم أن هذا المفكر قد وشّى حبره بهاجس تحالف الحضارتين الصينية والإسلامية في تلميح الى تحالف نووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية.

نحن في لحظة الخروج النهائي من هذا المثلّث المقفل على مجموعات من القادة الذين يتجاوزون المفكرين والسياسيين المسكونين في إشتعال النيران في مواقد الصراع والقوة ونبذ الحوار وإسقاط الفكر الذي يشغل المؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية الى سياسة التفاهم بين الغرب والعالم الإسلامي والتفاهم والتعايش السلمي بدلاً من الصدام.

لا يمكن الخروج، كما يبدو، من السياسات الحادة التي يطغى عليها الدم وتجارة الأسلحة وبعثرة الشعوب، بل صار الخروج ممكناً من المناهج الفكرية في تناول الأزمات والمعضلات والحروب، خصوصاً وأن السلطات العاقلة في العالم تتراجع بمعانيها التقليدية المعروفة وتنهار لمصلحة القادة المتهوّرين الذين قد يدفع نزقهم وتهورهم العالم إلى نسخٍ جديدة من الحروب الكونية.

هذا هو التاريخ المنسي والمتهدّم إذن، من الحضارتين الهيروغليفية في مصر والمسمارية في بلاد ما بين النهرين نزولاً نحو فلسطين زاوية المثلث الثالثة الدموية المنكوبة عالمياً يعاين المفكّر عشرات من الدول الإسلامية والعربية المدمّرة والمرتجفة كما يعاين الكلام والفكر الضحل الكثير واللذي يذكّر بأكثر من ألفيات خمس من التقهقر وتعثر البشر في ملامسة الحوار وترسيخه في فكر الديانات لا كما هي بل كما يحوّلها القادة والمفكرون بأصابعهم وشططهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى