مقالات مختارة

حرب أخرى في لبنان ؟ دانيال بايمان

 

معهد بروكينغز

يتنازع حزب الله وإسرائيل بانتظام. وقد وسّع تدخّلُ حزب الله في الحرب الأهلية السورية جبهةَ الصراع. وفي السنوات التي تلت اندلاع الحرب في العام 2011، قصفت إسرائيل مستودعات أسلحة لحزب الله وعناصر تابعة له في سوريا، فيما تفاخر حزب الله بإسقاطه مقاتلة إسرائيلية من طراز أف-16. ويحذّر مسؤول كبير في الاستخبارات الأمريكية من ورود “احتمال فعلي” بأن تندلع حربٌ بين إسرائيل وحزب الله ومن أنّ حرباً كهذه قد تجرّ إيران وغيرها من القوى الإقليمية إليها. وتقول المحلّلة مارا كارلين إنّ الحرب “شبه حتمية” وإنّ “السؤالَين الفعليَّين هما كيف ستندلع شرارة الحرب وأين، وليس ما إذا ستقع الحرب”. ويحذّر أمين عام حزب الله حسن نصر الله أيضاً من أنّ إسرائيل تشكّل خطراً دائماً على لبنان وحزب الله. وعلى الرغم من التهديدات بالحرب لمدّة أكثر من عقد ومن المناوشات المنتظمة، لم يتجاوز أيّ طرف الحدود. فما الذي يفسّر هذا السلام الثابت، وإن كان مضطرباً – وهل سيدوم؟

تفوق المخاطر على إسرائيل في لبنان المعارك الدورية التي تندلع بينها وبين حماس في غزّة بكثير. ففي العام 2006، شنّ حزب الله غارة عبر الحدود فقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وأسَر اثنَين آخرَين. وقد دُهش حزب الله بأن ردّت إسرائيل على الغارة بحملة قصف كثيف تبعها هجوم برّي. غير أنّ حزب الله كان مستعدّاً للقتال فاستمرّ في إطلاق الصواريخ على إسرائيل طيلة أيّام الصراع الذي استمرّ لـ34 يوماً وانتهى بانسحاب إسرائيل. فأشاد العالم العربي بحزب الله ونصر الله على تحدّيهما الناجح لإسرائيل.

وبعد مرور أكثر من 10 سنوات، باتت قدرات حزب الله العسكرية أعظم. فيملك الحزب أكثر من 100 ألف صاروخ وقذيفة، وبإمكانه أن يطلق أكثر من ألفٍ منها في اليوم، مستهدفاً تقريباً كلّ مدينة كبيرة في إسرائيل. ويصنّع حزبُ الله أيضاً أسلحة في لبنان، فينتج طائرات من دون طيّار وصواريخ موجّهة وغيرها من الأنظمة. وفي الماضي، كانت صواريخ حزب الله مجهّزة بأنظمة توجيه بدائية وكانت تسقط في أغلب الأحيان في حقول إسرائيلية أو في أجزاء غير مأهولة أخرى من البلاد. أمّا الآن، فيملك حزب الله أنظمةً تستخدم أنظمة توجيه متطوّرة مثل صاروخ فاتح 110. وإذا نشب صراع آخر، ستواجه إسرائيل احتمال فقدان معامل الطاقة ومطاراتها ومواقع سياسية وثقافية مهمّة وغيرها من التهديدات الخطيرة. وستؤمّن أنظمةُ الدفاع الصاروخي والأنظمة المضادة للصواريخ الإسرائيلية، مثل القبّة الحديدية ومقلاع داوود، نوعاً من الحماية، لكن حجم ترسانة حزب الله ومداها سيخضعها لاختبار حقيقي.

أما من الناحية السياسية، فحزب الله مطمئن البال أيضاً. ففي الانتخابات النيابية في مايو 2018، فاز بالمزيد من المقاعد وازدادت قوّته على حساب رئيس الوزراء سعد الحريري، زعيم السنّة في لبنان. وقد كان لحزب الله أصلاً قوّة نقض بحكم الأمر الواقع في ما يتعلّق بقرارات الحكومة في لبنان، غير أنّ أداءه الانتخابي القوي عزّز أكثر هذه القدرة.

والفارق الأكبر بالنسبة إلى حزب الله منذ العام 2006 هو مشاركتُه في الحرب الأهليّة السورية التي شكّلت مصدر قوّة وضعف في آن. فقد أرسل حزب الله آلافَ المقاتلين إلى سوريا واضطلعوا بدور كبير في دعم نظام الأسد. وفي سوريا، اكتسب حزب الله مهارات قيّمة وأكسب السوريين مهارات أيضاً. فتعلّم مقاتلوه العمل مع القوة الجوّية الروسية واستخدام الدبّابات والقيام بعمليّات صغيرة منقولة جواً حتّى. وقد حازوا مجموعةً من الأنظمة التقليدية الإضافية، من دبّابات تي-72 إلى مركبات المشاة القتالية. وقد علّم أعضاءُ حزب الله مهارات الاستطلاع واستخدام الأسلحة للقوّات السورية بالإضافة إلى عناصر أفغانية وباكستانية أرسلتهم إيران للقتال في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، جذّر حزبُ الله في نفوس متدرَّبيه رسالتَه الثورية والمعادية لإسرائيل. وقد عيّنت القوّاتُ السورية أعضاءَ من حزب الله في مناصب قيادية حتّى. ويزيد امتلاك مقاتلين مناضلين وقادة متمرّسين من قوّة حزب الله.

لكن على الرغم من أنّ حزب الله أقوى بسبب تجربته في سوريا، بات الحزب في نواحٍ أخرى أضعف. فقبل الحرب، حظي حزبُ الله بنوع من الاحترام لدى المسلمين السنّة والمجتمعات المسيحية في لبنان لغياب الفساد في صفوفه نسبياً (مقارنة بجهات فاعلة لبنانية أخرى) ولقدرته على تقديم خدمات بفعالية في المناطق التي سيطر عليها ولمعارضته الثابتة لإسرائيل. غير أنّ وقوفه إلى جانب الأسد الجزّار ضدّ المعارضة السنّية جعله يبدو أكثر وكأنّه جهة فاعلة طائفية تتحكّم بها إيران وسوريا وليس كقوّة مقاومة إسلامية. وبالنسبة إلى العالم العربي السنّي، أصبح حزب الله رمزاً للشرّ. ومع أنّ دعم الشيعة اللبنانيين للحزب ما زال قوياً لكنّهم تحمّلوا الخسائر التي تكبّدها في سوريا – والتي بلغت 1400 قتيل على الأقلّ – لذلك فهم غير متحمّسين ليخوضوا حرباً أخرى تَعِدُ بإراقة المزيد من الدماء.

بالإضافة إلى ذلك، من غير الضروري أن تأتي جهودُ حزب الله العسكرية في سوريا بالمنفعة في الصراع مع إسرائيل. فقد هاجمت قوّات الحزب مقاتلين منتشرين في الكثير من المناطق المُدنية في سوريا، وهم مقاتلون يفتقرون للأسلحة والتدريب، لذا فأنّ المهارات التي تعلّمها حزب الله لن تفيده كثيراً في الدفاع عن جنوب لبنان ضدّ القوّات الإسرائيلية المدرَّبة جيداً. وعلى الرغم من أنّ قدرات حزب الله التقليدية باتت أقوى أكثر من أيّ وقت مضى، قد يكون استخدامها ضدّ إسرائيل كارثياً. فقد تشكّل دبّابات الحزب فخاً مميتاً في أثناء محاربة القوّات الإسرائيلية المتفوّقة. وفي حال حارب مقاتلو حزب الله بالتشكيلات الأكبر التي لجأوا إليها في الهجمات في سوريا، فسيدمّرها سلاح الجو والمروحيّات الإسرائيلية.

وفي حال اندلعت الحرب في لبنان، سيسعى حزب الله بدلاً من ذلك إلى استخدام صواريخه وسيركّز قوّاتَه للدفاع عن هذه الترسانة ضدّ هجمات إسرائيل الجويّة والبرّية. فقد حفر أكثر من ألف نفق ومستودع ليخبّئ أسلحته ومقاتليه. وفي حال غزت إسرائيل لبنان من جديد لتوقف الاعتداءات الصاروخية، سيحاول حزب الله الاستفادة من أودية لبنان الشديدة الانحدار، كما فعل في العام 2006، ليجبر القوّات الإسرائيلية على سلوك مناطق ضيّقة تكون فيها عرضة للهجوم. غير أنّ إسرائيل تعلّمت من هزيمتها في العام 2006 ومن المستبعد أن تكرّر أخطاء الحرب الأخيرة.

ونظراً إلى هذه القيود العسكرية والسياسية، لا يُبدي حزب الله حماساً في مهاجمة إسرائيل. وعلى الرغم من أنّ الحزب لا يزال يسعى بالاسم إلى إزالة الدولة اليهودية، هو مدركٌ أنّ هذا الهدف غير واقعي. ففي انتخابات مايو 2018، تضمّنت حملته مواضيع تتعلّق بمسائل داخلية وليس بمحاربة عدوّه الصهيوني. فقد اتّخذ الحزب عبارة “نحمي ونبني” شعاراً لحملته الانتخابية – وهو شعار بعيد تمام البعد عن حرب جديدة ضدّ إسرائيل. علاوة على ذلك، فازت حركة أمل، خصمُ حزب الله الشيعي، ببعض المقاعد في انتخابات مايو، مما أبرز الامتعاض من تدخّل حزب الله في سوريا. باختصار، نظراً إلى أنّ حزب الله يطمح إلى التحكّم بالسلطة في لبنان، من المستبعد أن يستخدم لبنان كمسرح لمحاربة إسرائيل ولا سيّما إذا استطاع محاربتها في سوريا بدلاً من ذلك.

وتعتبر إسرائيل موقعَ حزب الله السياسي القوي في لبنان عنصر ضعف وعنصراً يعزّز قوى الردع الإسرائيلية. فنظراً إلى نفوذ حزب الله السياسي الأكبر بعد الانتخابات في العام 2018 وإلى دوره في الحكومة اللبنانية، تستطيع إسرائيل أن تحمّل أكثر الحكومة بأكملها مسؤولية أيّ تحرّك يصدر عن لبنان وأن تهدّد بانتقام واسع على الأراضي اللبنانية، وقد دعم مؤخّراً هذه المقاربة وزير التعليم (والقوّة السياسية الصاعدة) نفتالي بنت. فبإمكان إسرائيل أن تطيح بالخطط اللبنانية حتّى من دون القصف الهائل الذي تميّزت به الحرب في العام 2006: فيكفي القيام بغارات صغيرة وغيرها من أشكال الضغط العسكري المنخفض المستوى لتخيف المستثمرين والسواح.

غير أنّ هذا التفكير يتلاشى في وجه السياسة الأمريكية الماضية التي سعت إلى الفصل بين الحكومة اللبنانية وحزب الله وإلى تقوية القوّات الحكومية. فمنذ العام 2006، قدّمت الولايات المتحدة معدّات بقيمة حوالي مليارَي دولار أمريكي للجيش اللبناني وساعدت على تدريب قوّاته حتّى وإن كان حزب الله لا يزال جزءاً مهمّاً من النظام اللبناني. بالإضافة إلى ذلك، قد ينجم عن الردّ الإسرائيلي على معاقل حزب الله عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين، نظراً إلى أنّ قوات حزب الله تتداخل مع الشعب اللبناني. ومع أنّ صانعي السياسات الإسرائيليين سيلومون حزب الله على الضرر الحتمي الذي سيخلّفه استخدام دروع بشرية وسيحظون بدعم إدارة ترامب في هذا الأمر، ستؤدّي صور القتلى المدنيّين إلى إلقاء معظم دول العالم اللوم على إسرائيل.

وتكمن على الأقلّ ناحية واحدة من عدم الوضوح في السياسة في طهران. فبعد قرار الرئيس ترامب بالإطاحة بالاتّفاق الإيراني، تضاءلت مصلحة الجمهورية الإسلامية في الحفاظ على النظام الإقليمي. لكن من جهة أخرى، قد يخشى قادة طهران من أن يشكّل قرار ترامب تمهيداً للحرب ويريدون أن يتفادوا زيادة التوتّرات. ويبقى أيضاً دور حزب الله المستقبلي في سوريا علامة استفهام. فحين كانت سوريا قوية ولبنان ضعيفاً، أزعج الأسد إسرائيل من الأراضي اللبنانية، مستخدماً جهات وكيلة في لبنان لتبقي المعركة ضدّ إسرائيل بعيدة عن سوريا. غير أنّ الأدوار انقلبت، فمع تأدية حزب الله وإيران دوراً مهمّاً في سوريا (وتسبّبهما بضربات إسرائيلية على الأراضي السورية)، من الصعب الاستمرار بالتفرقة بين المسرحَين السوري واللبناني. وعلى إسرائيل أن تخشى من أن تندمج الجبهتان السورية واللبنانية فتنشب أزمة يصفها مسؤولون إسرائيليون على أنّها “حرب شمالية”.

ومن المرجّح أن تكون النتيجة أن تحافظ إسرائيل وحزب الله على سلام عنيف. لكن على غرار ما حصل في العام 2006، قد تؤدّي الأخطاء في التقدير والاستفزازات إلى تصعيد غير متوقّع. فقد لا يبقى صراع ما محصوراً في سوريا وإن بدأ فيها. وكلتا الجهتَين حاضرة للحرب هذه المرّة – فإذا اندلعت، من المرجّح أن تكون مؤلمة لكلّ المعنيّين بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى