مقالات مختارة

أيّ لبنان تريدون وعلى أيّ دستور تتقاتلون؟ د. نسيم الخوري

دستور، إفتحوا الطريق، دعونا نخرج من لبنانكم إلى أرض الله الواسعة؟

 

قد يصل الفراغ الناتج عن الصراع المألوف في لبنان بك أحياناً إلى التساؤل عن موقع الكتاب وقيمته، وقدرة مضامينه في ضبط الوطن ومكانه وحكّامه واستقراره. أعني بالكتاب «الدستور»، ويعني دستور اتّفاق الطائف، الذي ورد في ديباجته أي في مقدّمته أنّ «لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين ولا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».
الواقع يفرز عكس هذه الديباجة، التي تشظّي اللبنانيين في فهم الشرعية والسلطات وفي محاربة التوطين؛ بما يجعل من فصل السلطات وتأطير الصلاحيات وتوازنها وتعاونها معضلة دولية عند تأليف أية حكومة أو انتخابات برلمانية أو رئاسية.
اللبنانيون مسكونون بالخوف مع الصعوبات والعقد، التي تجهض ولادة الحكومة اليوم، ويضيعون في إلقاء المسؤوليات على الداخل أو على الخارج. يلوح من الخارج عيون حمراء تحدّق بلبنان وتحاول إلباسه معظم العقد الإقليمية لا بل الدولية التي عصفت وتعصف بالمنطقة العربية منذ صرخة تونس الربيعية إلى مؤتمر هلسنكي بين الرئيس الروسي بوتين والأمريكي ترامب، والتي كان ينتظرها بخوف ربّما أطفال العرب والمسلمين، والتي لم تفرز جديداً منذ ال1948؛ حيث كانت موسكو تسبق دول العالم كلّه للاعتراف ب«إسرائيل».
لنقل إذن إنّ السلم المنبثق من الطائف قد أرضى جروح اللبنانيين، التي لا يريد أحد تذكرها ولو تنزلق بها بعض الألسن السياسية؛ لكنه اتّفاق لم يجعل الكوارث الكثيرة تأخذ طريقها إلى النسيان والتجدد.
ولا مبالغة في توصيف النتيجة البارزة: اهتراء كامل وانتظارات مملّة وضغوطات اقتصادية وإعلامية وسياسية وعسكرية وحتى تربوية كأن تقرأ مثلاً أن ضغوطات وصلت إلى حدود عدم الاعتراف بشهادات بعض الجامعات في لبنان. وسواء أكانت هذه الضغوطات خارجية وبدوافع محاصرة متبادلة بين الأحزاب في لبنان، فإنّ الوطن دخل عملياً في جمهورية جديدة نسيناها؛ لكنه بقي مطبّعاً بتقليدية طائفية ومناطقية هائلة في الحكم جعلت الشروخ كبيرة مع الناس وبينهم، ورفضت الأجيال الجديدة النظام القائم وأعرضت وتعرض عن ممثليه بحذر المصالح، وباتت تنظر استمرار تجمع سياسيين يتقاسمون الوطن. غاب مبدأ الحوار الشامل، وفكت أواصر اللحام ودخلنا إلى ثنائيات حزبية تتناحر في المذهب الواحد كما تتناحر مع المذاهب الأخرى، وكأنّ الوطن القسري بات مؤقتاً أو مرحلياً في انتظار ظروف مستجدة تقرع الأبواب الموصدة من خارج ما.
إننا وكأننا في النقطة الصفر! ترتفع الأصوات السياسية المطالبة بتعديلات جذرية في اتفاق الطائف كنصوص باتت في الدستور وهذا حقّها الخطابي؛ لأنّ الدساتير ليست نصوصاً مقدّسة، لكنّ هذه الأصوات تقابلها فوراً أصوات أخرى تدعو إلى احتساب أعداد اللبنانيين تليها أصوات تقول إنه بالتوافقية لا بالعددية يتمّ حكم لبنان،
ويصبح الدستور اتفاقاً مستورداً مفروضاً ولتطبيق نصوصه أعباء قابلة للتنابذ وتراكم العقد التي تولّد دستوراً مفترضاً قسرياً ووطناً قيصرياً في الوقت نفسه.
لماذا يحصل كلّ هذا يا ترى؟
لأنّ لبنان يتوزّع مجدداً بين من يعارض الوطن/العهد ويطالب بالسلطة أو يعارض السلطات كلها مطالباً بالوطن أو يعارض الاثنين معاً أو يقبلهما أو أنه خارج هذه الدوائر كلّها وفي حال من اليأس من عدم الوفاق الوطني الذي أورث مشاعر مثل الإحباط والانكفاء وعدم المشاركة مقابل التفرد والفجور والإلغاء والاستقواء والاستعداء إن لم نقل الاستجداء في الحصول على الحصص والمناصب! والمفارقة أن الاتفاق كنص دائري مقفل حمل مجموعة كبرى من القضايا الدستورية التي تحتاج إلى توضيح وتعميق للحوار؛ بحثاً عن الوفاق الفعلي، لكن الحوار كان يعني العودة إلى الاشتباك، وهو أمر كان ممنوعاً إقليمياً ودولياً ولا ندري إن كان مسموحاً اليوم البحث في بنود دستورية تغامر بنسف الاتفاقات أو تعيدنا إلى مخاطر متجددة.
ولأنّ بعض الفئات كانت تعد لبنان واجهة الغرب في المنطقة؛ لكن المنطقة كلّها أصبحت موطن الغرب والشرق. ولم يعد هناك من شرق بالمعنى الغربي للكلمة. يعيش اللبنانيون التنازع والإرباك السياسي والإرهاق الكياني، ولا نرى أنه بوسعهم الانخراط جذرياً ولا الانصراف كلياً عن المتغيرات الكبرى الحاصلة في العالم وفهمها وترجمتها في مواقف مستجدة في السياسة الداخلية.
ثمة إجماع عند اللبنانيين على أن الدولة لم تقم بعد، وأن المستقبل غامض ومثقل بالديون ولبنان انتظر ما يكفي من هذه المآزم سياسياً واقتصادياً، فما نُفذ من الدستور قد نفّذ وما لم ينفذ سقط بانتظار نص معدل أو جديد! والنصوص تعني الحروب في لبنان!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى