مقالات مختارة

الانحطاط جاهلية معاصرة… كيف نخرج منها؟: د. عصام نعمان

 

دُعيتُ مع كثيرين من الباحثين والمتخصّصين والكتّاب من شتى بلاد العرب وغرب آسيا وأوروبا للمشاركة في المؤتمر الإقليمي الثامن الذي نظّمه، على مدى خمسة أيام، مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني. موضوع المؤتمر كان «دعم الاستقرار والتنمية في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط». أوراقٌ ودراسات عدّة جرى تقديمها في إطار محاور المؤتمر الثلاثة. ورقتي قدّمتها في إطار المحور الثالث: «أنظمة الحكم ومستقبل المسار الديمقراطي في المنطقة العلاقات الإقليمية والدولية ».

رافقَت تقديم الأوراق والأبحاث وأعقبتها مناقشاتٌ مستفيضة ومتوقّدة أسبغت على فعاليات المؤتمر حيوية دافقة. قلتُ في مناقشة بعض التعليقات على الأوراق والأبحاث إنّ حال العرب اليوم شبيهة بما كانوا عليه من انقسام وانحطاط عشية غزو الفرنجة الصليبيين بلاد الشام ومن ثم وادي النيل سنة 1109م: مجموعة إمارات ومشيخات متباعدة، متنافرة، ومتحاربة وعلى قدْر كبير من الضعف والهزال. احتلالُ الفرنجة دام نحو 180 سنة. بعدهم جاء الأيوبيون الكُرد وحكمهم الذي دام 200 سنة. ثم جاء المماليك مجاميع من كرد وترك وكرج ودام تحكّمهم نحو 350 سنة. بعدهم بسط الأتراك العثمانيون سلطانهم الذي دام نحو 400 سنة، ثم جاء البريطانيون والفرنسيون الذين دام انتدابهم استعمارهم أكثر من 40 سنة. كلّ ذلك عدا نفوذ أميركا وحكمها غير المباشر لبلدان عربية عدّة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما زال مستمراً في بعضها.

المؤرّخ المصري الدكتور شارل عيساوي ألّف كتاباً سنة 1960 أثبت فيه أنه على مدى ألف سنة حكَمَ العرب حكامٌ أجانب. يُستخلص من ذلك أنه إذا كان عمر الإسلام اليوم يربو على 1439 سنة، فإنّ العرب المسلمين لم يحكموا أنفسهم بأنفسهم سحابةَ تاريخهم بعد الإسلام إلاّ 439 سنة، وربما أقلّ.

لعلّ مردّ ذلك إلى أنّ الجاهلية ما زالت متجذّرة في أعماقنا، وأنها حاضرة وفاعلة في تفكيرنا وتدبيرنا وفي ثقافتنا وسلوكنا الاجتماعي. ليس أدلّ على الحضور المعاصر للجاهلية في حياتنا من ظاهرة الشقاق المزمن الذي يصل إلى حدّ التناحر والتقاتل بين أهل السنّة وأهل الشيعة في معظم البلدان العربية والإسلامية.

الجاهليةُ من الجهل. والجهل، بحسب «لسان العرب»، نقيض العلم. والجاهلية ليست نقيض العلم فحسب، بل هي أيضاً «الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكِبْر والتجبّر وغير ذلك».

من التدقيق في بعض ممارسات المتشدّدين والتكفيريّين في بلادنا هذه الأيام، يتضح أنّ «الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين» ما زال سائداً. أما «المفاخرة بالأنساب والكِبْر والتجبّر»، فحدّث ولا حرج.

الجاهلية ما زالت، إذاً، مستمرة في حاضرنا، مثلما كانت سائدة في ماضينا. أجل، ثمة جاهلية معاصرة لا سبيل الى تجاهلها، ولعلها «تمتاز» عن جاهلية الماضي قبل الإسلام بعيوب إضافية أبرزها إنكار الآخر أو عدم الاعتراف به. أليس الصراع المحتدم بين المذاهب الإسلامية مظهراً من مظاهر عدم الاعتراف بالآخر؟

لا غلوّ في القول إنّ الجاهلية المعاصرة هي ثقافة ماضوية، ركودية، ومتخلّفة. الخروج منها يكون بالتغيّر الثقافي. هذا التغيّر ينهض به مثقفون تحرّروا من الثقافة الماضوية، ثقافة التقاليد الشائخة، ثقافة الطاعة والخضوع لأولي الأمر أيّاً كانوا. الخروج من الجاهلية المعاصرة يكون بالتحرّر منها واعتناق ثقافة الحرية، ثقافة العقل والنقد والانفتاح على العصر بكلّ فواعله وتحوّلاته.

المثقف، بما هو كائن حيّ عاقل وعارف، يعي حقيقة الوجود المفصح دائماً عن تناقضات وتحوّلات. هذا الوعي المبكر بحقيقة التناقضات والتحوّلات وحركيتها في الوجود الشامل، ومن ضمنه الحياة الإنسانية، هو أُولى مزايا المثقف وأكثرها التصاقاً بشخصيته وسلوكيته.

يعي الإنسان المثقف هذه الحقيقة الساطعة التناقضات والتحوّلات الدائمة في الحياة والثقافة فيصبح جزءاً منها ومعبّراً عنها. إنه جزء حيّ، داخل نفسه وفي مجتمعه، ومرآة هذه التناقضات والتحوّلات. لذا يكون المثقف في حالة تقويم evaluation دائم لهذه التناقضات والتحوّلات وبالتالي في حالة نقدٍ لها.

الثقافةُ، بما هي نتاج المثقفين على مرّ الزمن، سجلّ حافل للنقد المتواصل. باختصار، الثقافة هي النقد، والمثقف هو الناقد الدائم بل المحترف الدائم للنقد.

إنّ التحوّل العظيم بالتزام النقد والحوار من أجل النهوض والارتقاء هو مهمة المثقفين الملتزمين الشرفاء في مجتمعنا وعصرنا.

في هذا المجال، ألتقي مع القائلين بضرورة أن يعتمد المثقف في سلوكه وعمله الصدق والشجاعة والمقاومة حتى حدود الشهادة. بل لا بدّ أحياناً من أن يركب الأخطار لتحقيق التزامه الفكري والسياسي حتى حدود ملامسة الجنون.

تحضرني في هذا المجال قولة كزنتزاكس، حامل جائزة نوبل للأدب، بلسان بطل رائعته «زوربا اليوناني»: «بقليل من الجنون نغيّر العالم»!

كما تحضرني قولة ديغول عندما خاطب أنصاره في أحد المنعطفات التاريخية للمقاومة الفرنسية إبّان الاحتلال النازي لبلاده: «تعقّلوا واطلبوا المستحيل كالمجانين»!

أجل، آن الأوان كي نطلب، من أجل التغيّر الثقافي، المستحيل كالمجانين.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى