مقالات مختارة

مواجهةٌ سقطت سهواً العميد منير عقيقي

يكاد يستحيل العثور على المنطق السياسي الذي يبرر لغالبية قادة دول العالم الإعلان عن الانتصار على “داعش” في أحسن الأحوال، أو هزيمة هذا التنظيم الإرهابي المتأسلم في أسوأها. التنظيم الذي أسقط حدودا جغرافية دولية، وأقام دولة الخلافة خاصته، قلّما تبدى كجسم متماسك بأضلع سياسية وعسكرية ودستورية.

مبعث الغرابة يكمن في أثبات هذا التنظيم قدرته المتشعبة. كلما اختفى من مكان أطلّ ليضرب في مكان آخر، ليبقى العالم كلّه على قلق مقيم. وهذا ما أثبته بالوقائع “حوار الأمن الدولي 2018” في ماليزيا. المداخلات القيّمة التي دعت الى “مكافحة الخطابات الخبيثة التي ينشرها «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى، والطلب من علماء الدين ابتكار طرق لمكافحة الفكر المتطرف والخطابات المحرفة حول الفرائض الدينية…” كما أثبتت هذه المداخلات “أن مواجهة واجبة قد سقطت سهواً من الجميع، وهي المواجهة التي يفترض بالمؤسسات الدينية مباشرتها وأن لا تقصر دورها على نشر المعتقدات وسرد المرويات التاريخية”.

إلى الآن، لم يبتكر علماء الدين في الدرجة الأولى، والنخب الثقافية والفكرية بدرجة أقل، طرقا وأساليب جديدة لمكافحة التطرّف والدعاية السامة لـ”داعش”، ووجوب إعتبار كل ما يصدر عن هذا التنظيم على أنّه نقيض سماحة الإسلام. فالإعتدال والإفراط في استعمال هذا المصطلح من دون آليات فعلية لدحض مفاهيم التطرّف وتفكيكها بشقّيه: التطرّف المتأسلم، والتطرّف المقابل المتمثّل بالإسلاموفوبيا، هما اللذان أفضيا إلى ازدياد وتيرة أعمال العنف والقتل واستهداف المجتمعات واستقرارها.

الثابت إلى الآن أيضاً أن هذا الإرهاب المحسوب زوراً على الإسلام إستهدف المسلمين وقتل منهم ما أكثر مما فعله أي تحد في العالم. لكن ذلك لا يلغي أبدا ان “داعش” ومعه “القاعدة” و”النصرة” و”بوكوحرام” وغيرها الكثير من المسميات، قد دفعت العالم نحو صراعاتٍ فكرية وصدامات حضارية يريدها “داعش” وينشدها، كما أصحاب ظاهرة الإسلاموفوبيا. فكلاهما يتغذى من خطاب الكراهية والعنف.

مواجهة التطرّف ينبغي أن تنهض على قاعدة تقديم أفكارٍ أكثر جاذبية، وقادرة على الإنتصار على إيديولوجيا التنظيمات الإرهابية وما فيها من تضليل وكذب. أولى الوسائل يجب أن تكون عبر تلك الأكثر تأثيرا أي وسائل التواصل الإجتماعي، لأن دولة الخلافة جغرافياً دُمرت وتقلصت، بينما واقعها الإفتراضي الذي أنطلقت منه هو الأقوى، ونجح في إقامة عالم إفتراضي عابر للقارات من دون الحاجة الى الاستحصال على تأشيرات دخول إلى الدول التي يريدها ويستهدفها. هذا ما أعلنه هو بنفسه من أن دولته الحقيقية ليست مجرّد كيان جغرافي، بل هي كيان افتراضي لا حدّ له. بهذا المعنى فإن المواجهة الفعلية ليست أمنية محضة، بقدر ما هي مواجهة فكرية، على المؤسسات الدينية أن تبادر إلى شنّها بلا هوادة وتردد.

المشكلة مع الإرهاب المتأسلم ليست مسألة أمنية فقط. في كل مرّة يتم فيها القضاء على خلية إرهابية تنبت خلايا أخرى بديلة منها. السبب ليس في الأمن وحده. فالتطرّف يقوم على أيديولوجيا مزجت المقدّس مع المدنّس، أي الدين مع السياسة، فكانت المغالطات والبرامج التعليمية “المؤدلجة”، المستندة الى إعمال النقل بدلاً من تشغيل العقل.

ما لم نتنبّه له في لبنان في التسعينيات في ما عرف بـ “أحدات الضنّية”، كما لم يتنبّه اليه العالم لاحقاً على اثر هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، هو أن المعركة مع هذا النوع من التنظيمات لا يمكن أن يكتب لها النجاح والنصر إلا من خلال تفاعل وحوار الحضارات وليس الركون والسكوت، حتى صارت الأمور في أحوالها الراهنة. كل هذا، كان يعني تلقائياً أن نبلغ الى ما نحن عليه، لأن المواجهة الفعلية قد سقطت سهواً.

عن مجلة الامن العام عدد 53/ شباط 2018

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى