مقالات مختارة

عون ــ برّي إلى هدنة… والبقيّة تأتي: نقولا ناصيف

 

من دون ان ينتهي، توقف الاشتباك السياسي بين رئيس مجلس النواب نبيه برّي ووزير الخارجية جبران باسيل، بمثل توقف اشتباك برّي مع رئيس الجمهورية ميشال عون. في كأس كل من الرئيسين من الزغل ما فيها من التريث والتبصر. انها استراحة المحارب

لم تنته ازمة مرسوم دورة ضباط 1994 بحلّ، بل بتعليق طويل الامد. لم تنته ايضاً ازمة الاهانة ورد الفعل بحلّ، بل بالانصراف عنها الى شأن آخر هو التهديد الاسرائيلي للنفط اللبناني، حتّم توقف الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي عند حدود وقف النار. ذلك ما عناه رئيس البرلمان مساء الخميس بوقف الحملات الاعلامية، مع الاصرار على تمسكه بمواقفه نفسها، قبل «اعتداء» الفيديو وبعده. كلاهما اذاً يقف وراء خطوط تماس سياسية، كاد يهبط عليها زنار النار.

عندما يكون الاشتباك بين رئيس الدولة ورئيس السلطة الاشتراعية، يمسي اي آخر بينهما ــ وإن وزيراً كوزير الخارجية ــ تفصيلاً، مع انه اثبت مهارة مشهودة في مقدرته على التلاعب بوطأة التناقض بين الرئيسين، الى حد الذهاب بهما الى الهاوية. على ان برّي ــ وفي واجهة الحدث على الارض حركة امل ــ اظهر ان في مقدرته الوصول بالاشتباك ايضاً الى حافة الهاوية. من خلافهما على تفسير اتفاق الطائف والدستور وصلاحيات السلطات والرئاسات، الى استعراض القوة على الارض، كبرت المصيبة واصبحت اقرب الى صراع أحجام. لرئيس الجمهورية حزب في الشارع، ولرئيس المجلس كذلك حزب في الشارع ابصر في ما احتواه شريط فيديو محمرش ــ وهو المتحرّش اولاً ــ خلاصة في شقين: اولهما، هجوم مباشر على برّي في محاولة لاضعافه قبل الوصول الى الانتخابات النيابية المقبلة ومن ثم الاستحقاق المهم الذي يليها وهو انتخاب رئيس للبرلمان الجديد، وثانيهما ارباك حزب الله داخل طائفته مع الفريق الشيعي الثاني على نحو يحمله في نهاية المطاف الى مفاضلة لن يُقدم عليها بالتأكيد للاختيار بين عون وبرّي

لم يطل ردّ حزب الله، في اقل من 24 ساعة، كي يصدر بياناً يدور كله حول رئيس المجلس وعدم التعرّض او الاساءة اليه «شكلاً ومضموناً»، من دون ان يأتي على ذكر باسيل او تياره ــ وهو الخصم في المشكلة ــ متعمّداً اهماله. لم تكن الاشارة الاولى لحزب الله. في ازمة مرسوم دورة 1994 التزم الصمت بين رئيسي الجمهورية والمجلس، ضامراً تأييداً غير مشروط لبرّي ليس في الموقف من مضمون المرسوم فحسب، بل ــ خصوصاً ــ في مقاربة حليفه المادة 54 وتمسكه بتوقيع وزير المال. وهو الموقف الاكثر دلالة في ما يجعل حزب الله يدعم الدور الحالي لبرّي في فرض التوازن داخل المؤسسات الدستورية.

اكثر من سبب يحمل على الاعتقاد بأن اجتماع عون وبرّي الثلاثاء لن يعدو كونه تكريس هدنة حيث انتهت اليه جبهة النزاع بين حزبيهما ما بين 28 كانون الثاني والاول من شباط:

اولهما، لا مبرّر يحمل وزير الخارجية، ولا من ورائه تياره، على الاعتذار سوى ان ثمة حقيقة قائمة لديه، هي ان ما اعلنه يضمره بالفعل لرئيس المجلس وحركة امل ويصرّ عليه. لا يقتصر على ذلك الفيديو، بل على مسار طويل في العلاقة المتردية بينهما، وخصوصاً حينما كان عون رئيساً للتيار قبل صهره. ذروة محطاته دائرة جزين في انتخابات 2009، مروراً بحقبة الشغور الرئاسي طوال سنتين ونصف سنة لم يُظهر برّي خلالها حماسة لترشيح عون ولا لتقبّل ممارسة وزرائه السلطة والتصويت في حكومة الرئيس تمام سلام حينذاك، وصولاً الى جلسة انتخاب الرئيس في تشرين الاول 2016 دونما اهمال اشتباكهما على شرعية البرلمان قبل التمديد له وبعده، وفي اثناء جلسة انتخاب الرئيس حتى، الى اول ازمة دستورية بينهما في كانون الاول 2016 هي ممانعة صهر الرئيس منح النائب سليمان فرنجيه حقيبة وازنة في الحكومة الحالية فمنحه اياها برّي من حصته، ثم ازمة المادة 59 في نيسان 2017، الى مرسوم دورة 1994، والبقية تأتي.

ثانيهما، ظهور مسلحين في الحدت هم ابناؤها مساء الاربعاء بعد ظهور مسلحين في سن الفيل الاثنين ممن دخلوا اليها، واطلاق نار في المرتين انبأ الرئيسين كما المتفرّجين على انهيار علاقتهما ان الوصول الى خطوط التماس اسهل مما يتصوّرون، كما لو ان الحرب لم تنته حقاً. ما حدث في ليلتي الاثنين والاربعاء لم يكن بالون اختبار تبادله الطرفان، اقرب ما يكون الى «بارود الشرف baroud d›honneur»، يرمي فاعله في هذا الفريق او ذاك الى القول انه يستعمل طلقته الاخيرة، بل وضع البلاد فعلاً على فوهة مدفع. ذلك ما عنته اولاً رسالة رئيس الجمهورية مساء الثلثاء بالدعوة الى التسامح، وما كشف عنه رئيس المجلس مساء الخميس بمسارعته الى اخطار الجيش بظهور مسلحين في الحدت يريدون اشعال النار بينها وجيرانها. لم تكن دعوة عون الى التسامح، ولا من بعده اعتذار برّي ظهر الاربعاء عن الاضرار التي لحقت بالمواطنين، كافيتين لتجنّب وقوع ما وقع ليل الاربعاء. كان من الممكن ان لا تكون مكالمة رئيس الجمهورية برئيس المجلس الخميس كافية حتى.

ليس بين عون وبرّي ما كان طوال عقدين من الزمن من العداء الشخصي والسياسي والعقائدي بين الرئيس كميل شمعون وكمال جنبلاط. على مرّها لم يتحدّث احدهما الى الآخر مرة. في 18 آب 1975، ابان «حرب السنتين»، خطف مسلحون في حزب الوطنيين الاحرار وليد جنبلاط في الحازمية حيث يقطن. للفور سارع شمعون ونجله داني الى البحث عنه وارجاعه سالماً. للمرة الاولى منذ عام 1958، حمل جنبلاط الاب سمّاعة الهاتف وشكر لعدّوه وخصمه اللدود جهوده لانقاذ ابنه الوحيد. مذذاك بدأ احدهما يتحدّث الى الآخر.

ثالثها، ما دامت جزين 2009 اقوى المشكلات بين الرئيسين واكثرها استفزازاً وحدّة وعمراً، لن تكون حتماً جزين 2018 آخرها. ما يبدو قاطعاً حتى الآن ان كلي حركة امل والتيار الوطني الحر سيُقبل على انتخابات دائرة صيدا ــ جزين في ايار، منفصلاً عن الآخر وخصماً له. الاولى مع حزب الله والنائب السابق اسامة سعد، والثاني مع تيار المستقبل. يتنافسان على المقعدين السنّيين في صيدا والمقعدين المارونيين والمقعد الكاثوليكي في جزين. الحسابات الاولية تتوقع تقاسم اللائحتين المقعدين السنّيين، والتناحر على المقاعد المسيحية الثلاثة الاخرى. لا مقعد شيعياً في الدائرة، ما يشي بتوزيع الاصوات التفضيلية الشيعية على رأسي حربة الائتلاف الشيعي: سعد وابراهيم سمير عازار.

في احسن الاحوال لن يستأثر التيار الوطني الحر بالمقاعد الثلاثة في جزين، كحاله اليوم. اذ يفقد احدها الماروني، وربما فقد الكاثوليكي ايضاً اذا احتاج هو ــ او تيار المستقبل ــ الى التحالف مع القوات اللبنانية. مشكلة جزين ما بعد الانتخابات اكثر وطأة منها الآن. عندئذ يعود اليها رئيس المجلس، وفي ذلك ما يكفي من الدلالات المفيدة: ان يكون حزب الله الى جانبه هذه المرة في جزين بعدما راعى عون في انتخابات 2009، وينام من ثم على مخدته.

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى