مقالات مختارة

الربيع العربي الثاني في تونس: تسفي برئيل

 

المظاهرات الصاخبة التي جرت مؤخرا في عدد من المدن التونسية أثارت للحظة ذكرى مشاهد كانون الثاني 2011 عندما صعد الرئيس زين العابدين بن علي وأبناء عائلته على متن الطائرة وهربوا من غضب الجماهير. كان ذلك هو النجاح الأول للربيع العربي الذي أعدى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية. ابن علي يعيش منذ ذلك الوقت في فيلا فاخرة في السعودية، حيث يهدده حكم بالسجن لـ 35 سنة وغرامة تبلغ 50 مليون دولار إذا عاد إلى وطنه.

المتظاهرون في الموجة الأولى لم يعودوا يطالبون بإسقاط الحكومة، التي أقيمت بعد مفاوضات مضنية. صحيح أن الإعلانات والشعارات تطالب مثلما كان الأمر في حينه بـ «الحرية، العمل وكرامة وطنية»، لكن محل شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» حل شعار «الشعب يريد إسقاط الميزانية». الميزانية التي تمت المصادقة عليها في هذه السنة تضر بجيوب الطبقة الفقيرة والمتوسطة، فهي تشمل رفع الضرائب وعلاوة 1 من مئة إلى ضريبة القيمة المضافة ورفع أسعار الوقود والمنتجات الأساسية والكماليات والكحول واستيراد السيارات ـ وفي المقابل هي لا تقدم الكثير لمصلحة التطوير وخفض نسبة البطالة .

تونس بحاجة إلى إصلاح اقتصادي حسب شروط القرض الذي يبلغ 2.8 مليار دولار والذي حصلت عليه من صندوق النقد الدُّولي، وهي تضطر إلى تقليص نفقاتها بصورة دراماتيكية. التقليصات تشمل تجميد إشغال وظائف حكومية جديدة، قانون يشجع على الاستثمار، تقليص البيروقراطية الثقيلة وتطهير الفساد المنتشر. ولكن الحكومة التونسية برئاسة يوسف الشاهد تواجه ليس فقط الرقابة المشددة لصندوق النقد، بل أيضا أعداءً سياسيين منهم نقابة العمال القوية وأحزاب المعارضة، التي تضع العقبات أمام كل اقتراح جديد للإصلاح.

الحكومة التونسية مستقرة نسبيًا، والأهم من ذلك أنها المنتوج الديمقراطي الوحيد لثورات الربيع العربي في كل الدول العربية. لقد انتخبت من خلال انتخابات حرة، الرئيس نجح في إقامة تحالف متعدد الأحزاب وحتى تحييد بصورة كبيرة الحزب الديني «النهضة» القريب أيديولوجيًا من الإخوان المسلمين. في الأقل في البداية ظهر أنه تستطيع أيضا مواجهة «استقرار الدولة بعد سنوات الثورة الأولى. ولكن العمليات القوية التي بدأت في عام 2015 بدأت، أضرت بشكل مباشر بفرع السياحة المهم وتسببت بضرر اقتصادي كبير حيث تجد الحكومة صعوبة في التعافي منه. في عام 2015 انخفض عدد السياح بـ 90 من مئة ودخل السياحة تقلصت بنسبة مشابهة. في السنة الأخيرة حدث تحسن في حجم السياحة لكن الدخل منخفض بأكثر من 35 من مئة عن التي كانت للدولة قبل الثورة.

هذه السنة قررت شركات الطيران البريطانية استئناف رحلاتها بصورة محدودة إلى تونس، سياح من روسيا «اكتشفوا» الشواطئ الجميلة في الدولة ورزم السياحة الرخيصة نسبيا من ألمانيا وفرنسا تمكن من الاستجمام لمدة أسبوع بمبلغ نحو 450 دولارا للشخص بما في ذلك تكاليف السفر. أماكن الاستجمام محمية بصورة غير مسبوقة والدولة تدفع لشركات الطيران مقابل السياح الذين تنقلهم، على أمل أنه مع حملات الدعاية سيتحول صيف 2018 إلى صيف مربح ويثمر في الأساس أماكن عمل للشباب العاطلين من العمل.

هؤلاء الشباب أبناء 15 ـ 20 سنة هم مركز مشكلة البطالة التي تقدر بـ 15 من مئة من إجمالي السكان وأكثر من 34 من مئة في أوساط الشباب. معظمهم خريجي جامعات اضطروا إلى الانتظار أشهرًا طوال وحتى سنوات، من أجل إيجاد مكان عمل مناسب. النظام يعرف جيدا أن من أشعل ثورة الربيع العربي كان محمد بوعزيزي وهو خريج جامعي أحرق نفسه بعد أن صادر رجال الشرطة بسطة الخُضَر والفواكه الخاصة منه وسلبوا مصدر رزقه البسيط.

لا يوجد لهؤلاء الشباب أيضًا حل لسكن في متناول اليد، حيث أن أسعار السكن بعيدة عن قدرة العائلات الشابة على الوصول إليها، حتى لو كان الزوجان يعملان. حسب مواقع الوساطة فقد بدأ هناك تحرك واضح في شراء الشقق في الدولة ولكن سعر معظم الشقق في الأحياء الجيدة في العاصمة مثل حي سيدي بوسعيد قرب الشاطئ يبدأ من مبلغ 150 ألف دولار ويصل إلى نصف مليون دولار لفيلّا مع بركة. وحسب الأسعار في أوروبا فإن هذه الأسعار بسيطة، وهذه الشقق مخصصة للاستثمار، لكن العائلات التونسية لا يمكنها حتى أن تحلم بها. الميزانية الجديدة بمبلغ 14.5 مليار دولار يتوقع أن تقلص أكثر القوة الشرائية للمواطنين وتبقي في أيديهم كمية أقل من المال للتوفير من أجل أهداف بعيدة المدى مثل شراء شقة.

في المقابل، الحكومة تحاول الإثبات أن نسبة الفقر في تونس غير مرتفعة. رئيس المكتب الوطني للإحصاء، هادي عبيدي، قال إن «من يستطيع إنفاق 40 دولارا في الشهر لا يعتبر فقيرا»، حيث أنه يبتعد عن الخط الأدنى لدولار في اليوم الذي يعتبر فقرا مدقعًا. ولكن حسب تعريف البنك الدُّولي فإن احتساب الفقر المدقع يتم حسب الدخل لا الإنفاق، دخل أقل من 1.9 دولار يوميًا يعتبر فقرًا مدقعًا. متوسط الإنفاق السنوي للفرد في تونس يصل إلى 1600 دولار مقابل أقل بقليل من 1000 دولار في 2010، ولكن أيضًا حسب هذا الاحتساب المرن فإن الثورة في تونس ما زالت بعيدة عن تحقيق وعودها للجمهور من الناحية الاقتصادية.

بالنسبة لآلاف المتظاهرين الذين طالبوا بـ «العمل والكرامة الوطنية»، فإن هذه التعريفات ليست ذات صلة، فكل واحد منهم يعرف جيدًا في أي أزمة اقتصادية هو غارق، حتى من دون جداول البنك الدُّولي للفقر. السؤال المطروح هو إذا كان هذا الغضب المتراكم يتوقع أن يهز الدولة سياسيًا أو أنه سيتوقف في هذه المرحلة التي واضح فيها للجميع أن أية حكومة بديلة لن تستطيع إحداث معجزة، وأن كل انقلاب سياسي سيبعد فقط السياح والمستثمرين.

هآرتس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى