مقالات مختارة

الاستراتيجية الأميركية: “كمّاشة” لاحتواء روسيا؟ ليلى نقولا

 

الاستنتاج العام حول سلوك القوى الدولية في الإطار الاقليمي، أن الأميركيين سيحاولون التفرّد بالنفوذ في المناطق الاقليمية حين يستطيعون، ولكن في حال العجز، فإنهم قد يقبلون بشراكات النفوذ مع قوى اقليمية بحكم الأمر الواقع، مع الاستمرار في محاولة منع أية قوّة دولية من مشاركتهم النفوذ في المناطق الاقليمية الحيوية في العالم، وهكذا نفهم التركيز على الخطرين الصيني والروسي في استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي أعلنها ترامب .

تشي التطوّرات الحاصلة على صعيد الأزمة السورية خاصة بعد مؤتمر سوتشي، أن الأميركيين يعملون جاهدين على تأخير الحل السوري ومنع الروس من تحقيق أي تقدّم إن على صعيد الحل السياسي الذي يحاول الروس تكريسه من خلال نتائج المؤتمر، أو من خلال محاولة اقتطاع جزء من الأرض السورية وتكريس كونتون انفصالي فيها في الشمال الشرقي من سوريا، أو محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بدقّ إسفين في علاقة موسكو بتركيا والاستفادة منها في الميدان السوري.

وبالنظر إلى المحاولات الأميركية للتعطيل، نجد أن الأميركيين حاولوا استباق مؤتمر سوتشي وتعطيله بشتى الأدوات ومنها الدعوة إلى مؤتمر فيينا قبل أسبوع من مؤتمر سوتشي، إطلاق صواريخ على قاعدة حميميم الروسية عبر طائرات مسيّرة انطلقت من مناطق تسيطر عليها مجموعات مسلحة تابعة للأتراك ، ليتبيّن في ما بعد أنها تهدف إلى دق إسفين في علاقة موسكو بالأتراك، ثم منع المعارضين الموالين للأميركيين والأكراد من المشاركة في مؤتمر سوتشي للحوار، ولعلّ الأخطر هو الوثيقة السياسية التي تمّ وضعها من قبل الدول الخمس (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، السعودية، والأردن)، والتي سوّقت أفكاراً خطيرة تمسّ بسيادة سوريا ووحدتها الاقليمية، وتنصّب نفسها بديلاً عن الشعب السوري في تقرير مصيره، وتنسف كل القرارات الدولية حول سوريا وخاصة القرار 2254.

وهكذا يتّضح أن الأميركيين لن يقبلوا بحل سوري بسهولة، وسيحاولون منع الروس، أو على الأقل تأخير بسط نفوذهم في سوريا والذي سيكون مقدّمة لنفوذ أكبر في الشرق الأوسط، أي أن الأميركيين وبالرغم من اقتناعهم أن الروس باتوا يسيطرون على مفاصل الحل والميدان في سوريا، لكنهم سيحاولون ما استطاعوا منع الروس من تسييل الانتصارات الميدانية في تكريس حلٍ سياسي يفرض وجهة نظرهم في مستقبل سوريا، وسيحاولون الاستمرار بالقتال والتعطيل لمنع الروس من تكريس شراكة في النفوذ الشرق الأوسطي مع الأميركيين.

بمراجعة تاريخية واقعية، نجد أنه ومنذ احتلال العراق عام 2003 سيطرت الولايات المتحدة كدولة كبرى على الشرق الأوسط، وحاولت التحكّم بمفاصل السياسة والتفاعلات الاقليمية التي تجري فيها بطريقة انفرادية، إلا أن الواقع على الأرض عاد وفرض على الأميركيين القبول بشراكة إيرانية في التحكّم بالعملية السياسية في العراق، ثم القبول بالأمر الواقع وتوسع النفوذ الإيراني في المنطقة برمّتها، خاصة بعد فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006، وبعد فشل إسرائيل في إخضاع قطاع غزّة، وفشل كل السياسات التي اتّبعت عبر الدعم الإعلامي والسياسي وبالواسطة لإخضاع حزب الله وسوريا.

ومع تطوّر الحرب السورية، بدا أن النفوذ الإيراني في ذلك البلد يترسّخ من خلال الدعم العسكري والاقتصادي والانخراط في الحرب إلى جانب الرئيس السوري بشّار الأسد، ثم دخل الروس على خط الأزمة، وتزايد انخراطهم مع تقدّم السنوات، إلى أن بات الروس يسيطرون على مسارات الحل السياسي والعسكري، ويتبّنون القضية السورية في المحافل الدولية، ويطمحون اليوم من خلال مؤتمر سوتشي إلى رسم وتحديد مسار التعديل الدستوري والانتقال من الحرب إلى السلم، وتوسّع نفوذهم الشرق أوسطي.

من خلال ما تقدّم، يمكن فهم الاستراتيجية الأميركية الحالية في مواجهة النفوذ الروسي المتعاظم في سوريا، فالأميركيون، كما يبدو، استسلموا للأمر الواقع بأنه لا يمكن القضاء على النفوذ الإيراني في العراق ولبنان. ويتّضح من خلال مراقبة السياسة الأميركية المتبعة، أن الأميركيين قد يقبلون -على مضض- بشراكة في النفوذ في كلا البلدين مع العمل الحثيث على تقليص مساحة النفوذ الإيراني واحتوائه قدر المستطاع وتوسيع مساحة النفوذ الأميركي على حسابه، وذلك بهدف تشكيل “كمّاشة” التفافية حول سوريا تهدف إلى احتواء النفوذ الروسي ومنعه من التمدّد من سوريا إلى باقي المناطق في الاقليم.

من هنا يكون الاستنتاج العام حول سلوك القوى الدولية في الإطار الاقليمي، أن الأميركيين سيحاولون التفرّد بالنفوذ في المناطق الاقليمية حين يستطيعون، ولكن في حال العجز، فإنهم قد يقبلون بشراكات النفوذ مع قوى اقليمية بحكم الأمر الواقع، مع الاستمرار في محاولة منع أية قوّة دولية من مشاركتهم النفوذ في المناطق الاقليمية الحيوية في العالم، وهكذا نفهم التركيز على الخطرين الصيني والروسي في استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي أعلنها ترامب. فهل ينجح الأميركيون في استراتيجية تشكيل “كمّاشة” أميركية إيرانية لاحتواء النفوذ الروسي في سوريا؟ وكيف سيوفّقون بين استراتيجية مُعاداة إيران واحتوائها في المنطقة، وشراكة النفوذ معها لاحتواء النفوذ الروسي في الوقت نفسه؟ وكيف سيتصرّف الإيرانيون؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى