مقالات مختارة

كيف يردّ العرب والمسلمون على صفعة ترامب؟: د. عصام نعمان

 

أميركا اعترفت بـ «إسرائيل»، دولةً وشعباً، لحظةَ إعلان قيامها العام 1948. هي لم تعترف بالفلسطينيين شعباً له حق الوجود في دولة. صحيح أنها أبقت إلى حين سفارتها في تل أبيب، لكنها تمسّكت بعدم اعترافها بدولةٍ للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة. ادّعت أنها أرجأت هذا الاعتراف إلى حين يتفق الفلسطينيون و«الإسرائيليون»، بالتفاوض، على شروط قيامها. للتدليل على «حسن نيتها» حيال الفلسطينيين، أعلنت أنّها ستضطلع بدور الوسيط في مفاوضاتٍ تجري بين الطرفين للوصول الى الاتفاق المنشود. ولتعزيز دورها كوسيط، تباطأت أميركا في نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس .

الفلسطينيون رفضوا، بادئ الأمر، التفاوض مع «إسرائيل» لكونه يؤشر إلى اعترافٍ بحق كيانها في الوجود على حساب أصحاب الحق الأصليين. معظم حكام العرب جارى الفلسطينيين في موقفهم إلى أن خسر الفلسطينيون والعرب في حرب 1967 معظم ما تبقّى لهم من فلسطين بموجب قرار تقسيمها العام 1947 بل خسروا، فوق ذلك، مناطق واسعة في مصر وسورية والأردن.

بعد النكبة الثانية المدوّية، وافق العرب والفلسطينيون على مفاوضة «إسرائيل». المفاوضات دامت وتمدّدت سنين عديدة وتخللتها حرب 1973 التي استرجع العرب بنتيجتها بعضاً من أراضيهم لقاء التنازل عن كثير من حقوقهم كعدم الاعتراف بـ «إسرائيل» كياناً غاصباً لفلسطين ومشرِّداً لشعبها تحت سماء كلّ كوكب.

الفلسطينيون حزموا أمرهم بعد طول معاناة وقرّروا القبض على زمام قضيتهم بأنفسهم، فباشروا مقاومة شعبية لـ «إسرائيل» من مناطق ومخيمات تحتضنها دول عربية مجاورة لكيان العدو، وانتزعوا من الحكام العرب قراراً بإقامة كيان لهم باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

لكن، لا فصائل المقاومة استطاعت تحقيق مكاسب حقيقية على الأرض، ولا منظمة التحرير استطاعت تحقيق نجاحات ملموسة في السياسة، ولا دول العرب استطاعت حمل أميركا وغيرها من شركاء «إسرائيل» وحلفائها على ممارسة ضغوط وازنة لحملها على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلّقة بحقوق شعب فلسطين. هكذا أصاب الوَهَن منظمة التحرير، فكان أن صالحت، كحكومتي مصر والأردن، «إسرائيل» بعقد «اتفاق أوسلو» معها العام 1993. غير أنّ «إسرائيل» امتنعت، كعادتها، عن تنفيذ ما تعقده من اتفاقات، فاستمرّ الاحتلال بكلّ شروره واقتصرت سلطة «السلطة الوطنية الفلسطينية» على التنسيق مع الجيش «الإسرائيلي» في حراسة أمن الاحتلال.

رافقت الاحتلال مفاوضاتٌ ماراثونية لا تنتهي بين مسؤولي السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال دونما نتائج تذكر. بالعكس، استغلّت حكومات «إسرائيل» المتعاقبة حال الضعف والانقسام الفلسطينية والعربية لتمديد رقعة الاستيطان في كلّ أرجاء الضفة الغربية. وحاول الرؤساء الأميركيون المتعاقبون، برفق، إقناع «إسرائيل» بوقف أعمال الاستيطان أثناء جولات المفاوضات المتطاولة، لكن دونما جدوى. ها هو دونالد ترامب يعلن أخيراً قراره بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس معترفاً بالمدينة المقدسة عاصمةً لـ «إسرائيل»، كما لم يتورّع عن وصف فعلته هذه بأنها تدبير «لدفع عملية السلام إلى الأمام»!

احتجّ فلسطينيون وعرب ومسلمون كثيرون على «هدية» ترامب الموازية، من حيث انعكاساتها وتداعياتها، لوعد بلفور لليهود الصهاينة قبل مئة سنة. ولئن اعتبر بعض المسؤولين الفلسطينيين والعرب بأنّ الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل» يقضي على «حلّ الدولتين»، فإنّ بعضهم الآخر ما زال يؤمّل في إمكان الاستفادة من رعاية أميركا لمفاوضات لاحقة مع «إسرائيل» طالما انّ عملية نقل السفارة فعلياً تتطلّب بعض الوقت! هؤلاء ما زالوا يصدّقون بأنّ أميركا تعترف بوجود الفلسطينيين وبحقهم بأن تكون لهم دولة. هؤلاء ما زالوا يعتقدون، بعد مرور نحو ربع قرن على بدء مفاوضات متطاولة وفارغة مع «إسرائيل»، بأنّ للتفاوض مع الصهاينة جدوى.

اليوم يتبارى كتّاب وإعلاميون وسياسيون في توصيف فعلة ترامب النكراء بأنها «صفقة القرن» أو «جريمة القرن» أو «جريمة العصر». ربما تكون لها كلّ هذه النعوت لكنها تشكّل، بالدرجة الأولى، «صفعة العصر» لكلّ العرب والمسلمين المخدوعين بجدوى التفاوض مع «إسرائيل» برعاية أميركا أو من دون رعايتها.

آن أوان الاقتناع، بعد صفعة ترامب المدوّية، بأن لا جدوى من مفاوضة «إسرائيل» ولا جدوى من مفاوضة أميركا بشأن «إسرائيل». ثمة مثل شائع بين عامة الناس في بلاد المشرق: «مَن جرّب المجرّب كان عقله مخرّب». إلى متى يجرّب بعض الفلسطينيين والعرب المجرَّب «الإسرائيلي» والأميركي؟

يبقى سؤال: كيف يردّ الفلسطينيون والعرب والمسلمون على صفعة ترامب وتداعياتها؟

لعلّ أوّل ما يقتضي فعله هو الاقتناع بلا جدوى، وبالتالي بضرورة الامتناع الكلّي عن التواصل مع «إسرائيل» أو مفاوضتها، برعاية أميركا أو من دونها، طالما موازين القوى الإقليمية والدولية السائدة على حالها. أما في حال تراجعت أميركا أو جمّدت على الأقلّ قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً لـ «إسرائيل» ونقل السفارة إليها، فيكون بإمكان الجهات الرسمية الفلسطينية معاودة التواصل معها في إطار شروط صارمة للقبول بمفاوضتها قبل مفاوضة «إسرائيل» ليس أقلها الإقرار بأنّ القدس عاصمة لدولة فلسطين، وبوقف الاستيطان كلياً طيلة فترة استئناف المفاوضات.

في موازاة هذا الموقف الشعبي والرسمي الصارم، يقتضي النهوض بلا إبطاء بمهمتين: الأولى للمدى القريب ملقاة على عاتق القوى الوطنية الحيّة، والأخرى للمدى الأبعد تقع على عاتق الحكومات والهيئات الرسمية والقادة الرسميين الوطنيين الواعين بالتحديات والمخاطر المحدقة بالأمة جمعاء والجادّين في التزام مواجهتها على كلّ الصُّعُد السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.

المهمة الأولى: إنّ القوى الوطنية الحيّة مدعوّةٌ إلى القيام بثلاث مبادرات أساسية:

أ ـ تأجيج الانتفاضات الشعبية بالاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني، إذا اقتضى الأمر، في إطار أوسع حملة شعبية ضدّ أميركا ومصالحها في عالم العرب والمسلمين.

ب ـ المباشرة بلا إبطاء في تطوير حركات المقاومة المدنية والميدانية وتوحيدها في جبهة واحدة على مستوى الوطن العربي بدءاً ببلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً الى جميع الأقطار والأمصار.

ج ـ اعتبار أيّ خطوة تتخذ للتطبيع مع «إسرائيل» قبل تسليمها بقيام دولة فلسطين المستقلة خيانة عظمى بحق فلسطين بما هي القضية المركزية للعرب والمسلمين.

المهمة الثانية: الضغط على الدول والحكومات والسلطات والهيئات الرسمية والقادة السياسيين في بلاد العرب والمسلمين لحملهم على القيام بثلاث مبادرات أساسية:

أ ـ قطع العلاقات الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع «إسرائيل» والوكالات والمؤسسات المتعاملة معها، ولا سيما الأميركية منها.

ب ـ عقد اجتماع لجامعة الدول العربية وآخر لمنظمة التعاون الإسلامي يُعلَن فيهما قرار لا رجوع فيه باعتبار القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين.

ج ـ إقرار ميزانية سنوية لمنظمة التحرير الفلسطينية في إطار كلّ من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وذلك بصيغة مساهمات مالية سنوية من الدول الأعضاء في كلٍّ منهما.

إلى ذلك كله، فإنّ القادة والمسؤولين الوطنيين الواعين وأهل الرأي المناضلين والملتزمين والجادّين في بلاد العرب مدعوّون الى اجتراح استراتيجية لبناء دول وطنية مدنية ديمقراطية في أقطارهم تكون أساساً لعمل دؤوب ومتواصل في إطار خطة علمية متعدّدة الجوانب لتحقيق تكاملها تدريجياً في اتحادٍ كونفدرالي أو دولة فدرالية اتحادية في المدى الجغرافي والاستراتيجي المحيط بالكيان الصهيوني، أيّ في بلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً إلى تكاملها مع بلاد وادي النيل.

إنّ التحدّيات والمخاطر الكبيرة تتطلب عقولاً وإرادات ومشروعات نهضوية كبيرة، وقد آن الأوان.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى