مقالات مختارة

الاعتراف بالقدس يبدو خطوة تأتي لتخفيف حدة ما سيأتي لاحقًا: الوف بن دافيد

 

هذا كان أسبوعا مثل مرة أخرى كم نحن كلّنا عالقون في الوقفة يمين أم يسار ويصعب علينا خوض نقاش موضوعي. فبينما معظم الدولة احتفلت، وعن حق، بالخطوة التأريخية المؤثرة للرئيس دونالد ترامب، كان هناك من قشروا وشرحوا بادّعاء بالمعرفة لِمَ لن تجدي الخطوة نفعًا أو أن توقيتها مغلوط. يبدو أن عددًا كبيرًا منا يعرفون أنفسهم من خلال الكراهية للمعسكر الآخر .

خطوة ترامب دراماتيكية، وهي ستعطي الأصداء. فقبل سنة بالضبط انتقم منّا الرئيس براك أوباما في خطوة أحادية الجانب في مجلس الأمن، سُجِّلت في كتب التأريخ. أحد لم يحتج في حينه على أن الولايات المتحدة تتخذ خطوة تُغيّر الوضع الراهن. جاء ترامب هذا الأسبوع فعدل الميزان واتّخذ هو أيضا خطوة أحادية الجانب ستكتب في سجل التأريخ. لن يتجرأ أي رئيس أمريكي على إلغاء الاعتراف بالقدس كعاصمتنا، وإذا انتقلت السفارة الى هناك فهذا سيكون الى الأبد. ستكون أيضا سفارات أخرى تسير في أعقاب الأمريكيين.

معظم من كتب في وسائل الإعلام استنفدوا ترسانة التعابير المطلقة الهازئة التي يمكن إلصاقها بترامب، ولكنه أصلح هذا الأسبوع ظلمًا تأريخيا يعود إلى 69 سنة. منذ نشأنا، ونحن الدولة الوحيدة في العالم التي لا تعترف أية دولة لإسرائيل بعاصمتها. وبالمناسبة، فإن الكثير من الدول التي حرصت على جدب تصريح ترامب سبق أن اعترفت في الماضي بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

شرح محلّلون كثيرون الخطوة من زاوية نظر أمريكية داخلية: ترامب ملتزم بتصريحه الانتخابي، ويريد أن يرضي المعسكر اليميني الافنجيلي من ناخبيه. ربما نحن، في إسرائيل اعتدنا منذ سنوات طوال على زعامة لا تتصرف إلا انطلاقًا من مثل هذه الاعتبارات، ولكن في حالة ترامب هذا تحليل ضحل. ينبغي للمرء أن يكون أعمى كي لا يرى الخطوة التي يطبخها هنا. فليس مصادفة أنه أطلق الإعلان في ساعة البث الإسرائيلية العليا وليس الأمريكية.

منذ انتخب ترامب وهو يفهم أن وحدها خطوة دُولية مدويّة يمكنها أن تنقذ ولايته واسمه. فقد كان يُفرحه أن يصفّي الطاغية من كوريا الشمالية، ولكن كما يبدو هذا ليس لديه المعلومات اللازمة لمثل هذه العملية. وعليه، فكاتب كتاب «فن الصفقة» يستثمر في المكان الذي يبدو له أنه يمكنه أن ينجح: عقد صفقة بين إسرائيل والفلسطينيين. وبالفعل فهو يبدو مثل الرئيس الأمريكي الأول الذي له احتمال في أن ينجح في المكان الذي فشل فيه كل أسلافه. لديه شرق أوسط مختلف تمامًا عن ذاك الذي كان في الماضي، ولديه الطبيعة الملائمة ليقود الطرفين (حتى ولو بالقوة) الى أماكن لم يتجرأ حتى الآن على زيارتها.

في اليوم الذي سبق الإعلان أجرى محادثات مع زعماء العالم العربي كلهم. نحن لا نعرف ما قيل هناك جميعه، لكن ردهم بعد هذه المكالمة الهاتفية كان معتدلًا نسبيًا. يمكن الافتراض أن ترامب شرح لهم، مثلما شرح لأبي مازن أيضًا – بأنه لا يعطي إسرائيل قطعة حلوى مجانية، بل لا بد سيجبي عليها المقابل. والاعتراف بالقدس يبدو خطوة تأتي لتخفيف حدة ما سيأتي لاحقا، حلوى قبيل القرص المرير الذي سيتعين على إسرائيل أن تبتلعه في مسودة الاتفاق الذي سيعرضها ترامب قريبًا.

بعد الاعتراف بالقدس أحد لا يمكنه أن يدّعي أن ترامب ليس صديقًا حقيقيًا لإسرائيل.

غاية الصفقة

لا يمكن لنا أن نتجاهل أيضًا البعد الشخصي الذي في الخطوة: فقد منح رئيس الوزراء ما يمكن أن يعتبر الإنجاز الأهم لبنامين نتنياهو في كل ولاياته الأربع. وهذه الكتف الحميمة أعطاها له ترامب في ساعته الصعبة. فالرئيس الأمريكي يعرف على نحو ممتاز ما هو الشعور حين يكون المرء خاضعا للتحقيق.

كان طبيعيا أن يجد نتنياهو صعوبة بكبح الابتسامة، وكان له سبب وجيه للابتسام. ولكن الاعتداد العالي بالنفس لديه يشير منذ الآن بأنه لم يتعلم بعد بأنه لا توجد حقا وجبات بالمجان.

منذ عشرات السنين وهو لا يعيش كشخص عادي، يحمل محفظة في الجيب ويكون مطالبا بأن يدفع لقاء ما يأكله.

إن لهدية ترامب الرائعة سيكون ثمن، ونتنياهو، مع كل ميله لنكران الجميل، لن يتمكن من تجاهل البادرة الطيبة التي تلقاها.

كل رجل أعمال سيقول لكم إن إحدى القواعد في الطريق الى الصفقة هي «أن يكون المرء كبيرا في الأمور الصغيرة» إعطاء الكثير من البادرات الطيبة الصغيرة لغرض الحصول على الشيء الكبير.

بالنسبة لنا كان الإعلان هدفا هائلا، أما بالنسبة لترامب فهو حتى لم يكن تنازلًا: فقد كسب منه المصداقية، وهو ليس الرجل الذي يوزع البادرات الطيبة كهذه بالمجان والحساب لا بد سيأتي، وترامب عرف كيف يحفظ لديه النصف الجذاب من البادرة الطيبة نقل السفارة الى القدس.

لقد تحدث ترامب كثيرا في خطابه عن السلام، ولكنه سيسعى الى غاية عملية أكثر «للصفقة»: لا السلام ولا بداية صداقة شجاعة بين الاسرائيليين والفلسطينيين؛ اتفاق يفصل بيننا وبينهم، يتطلب توافقات أليمة من الطرفين ويمكن له اليوم، بإسناد من المحور السنّي الجديد أن يفرض عليهما الاثنين ويلوي ذراعيهما مثلما لم يفعل أي رئيس قبله.

لقد بات هذا التصميم واضحًا منذ الآن في أثناء الأسبوع.

ومثل أسلافه هو أيضا يتعرض لرد فعل العالم العربي في كل مرة يطرح أحد ما اقتراحا في مصلحة إسرائيل: «الأرض ستشتعل»، يحذر الزعماء العرب على نحو تلقائي. وهذه المرة حذروا أيضا، ولكن الرئيس الأمريكي هذه المرة لم ينذعر. وحقيقة أنه أثبت أنه لا يتردد في مواجهة التحذيرات ستقف في مصلحته عندما سيطلب منهم تنازلات في المستقبل.

أما الموقف من الفلسطينيين وكأنهم وَلَدٌ ما في كل مرة لا يُعجبه شيء ما يهدد بالعربدة وعلى الجميع أن يتنازل له، فيجب أن يتوقف. يحتمل أن يكون هناك ثمن لإعلان ترامب بمواجهات مع الجيش الإسرائيلي أو بعمليات للأفراد ولكن على الفلسطينيين أن يفهموا أنهم هم من سيدفعون أساس الثمن. إذا كان اشتعال فهم أول من سيحترقون.

والآن، بعد أن تلقينا الاعتراف المتأخر، حان الوقت لأن نعترف نحن أيضا بعاصمتنا: فهي من المدن الفقيرة في إسرائيل. أقل من نصف سكانها الراشدين يعملون، ومعدل التلاميذ فيها ممن يستحقون الثانوية يبلغ نحو الثلث. فيها مخيمات لاجئين لم تطأها قدم إسرائيلي، وأحياء أصولية لا يمكن لجندي من الجيش الإسرائيلي أن يقطعها وهو يلبس البزة العسكرية.

أكثر من ثلث سكان القدس هم فلسطينيون. فهل شعفاط وكفر عقب هم جزء من عاصمة الشعب اليهودي؟ هل الأغلبية الصهيونية مستعدة لأن تترك العاصمة لحالها تحت سيطرة اليهودية الأصولية؟ بعد 69 سنة من إعلاننا عنها كعاصمة ومع اعتراف أمريكي، حان الوقت لأن ننظر من جديد الى حدود وطبيعة عاصمة إسرائيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى