مقالات مختارة

ما بعد البوكمال: من الشرق الأوسط الكبير إلى الشرق الأوسع: محمد بلوط, وليد شرارة

 

«إن مناخ العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة هو الأسوأ، على أقل تقدير، خلال كل الفترة التي أتذكرها، وأنا أتذكر لقاءات ليونيد إيلتش بريجينيف مع مختلف رؤساء الولايات المتحدة، وما نراه اليوم سيء جداً بالطبع». مقارنة اليوميات الأميركية ــ الروسية المتوترة بالثنائية القطبية، تتسم بجرعة مضاعفة من التشاؤم والخيبة، بسبب الصد الذي لاقت به الولايات المتحدة من خطب ودّها وطلب شراكة معها، وهو إقرار بالفشل يتخذ أبعاداً كبيرة، لأنه صدر خصوصاً عن رئيس الحكومة الروسية ديمتري ميدفيديف .

ميدفيديف الرجل الذي كان تباعاً رئيساً للوزراء ورئيساً لروسيا، حمل الدعوة الأكثر حماساً للتقارب مع الولايات المتحدة. ولعب الصد الأميركي، ولا يزال، دوراً كبيراً في توسيع «نادي من خاب سعيهم»، وفي فتح الطريق من شرق أوسط إلى شرق أوسع.

عود على بدء إلى مقدمات الخريطة الجديدة، قبل الوصول إلى التسليم الروسي بضرورة بناء بديل عن التقارب مع أميركا. هكذا مرة أخرى، أعاد انتصار كبير، كانتصار محور المقاومة في سوريا، تعريف الشرق الأوسط. فالخريطة التي أعمل فيها المحافظون الجدد الأميركيون والإسرائيليون مباضعهم طيلة التسعينيات، وخمسة عاماً من فواتح الألفية الثالثة، لا تشبه بشيء الشرق الأوسط الجديد، إذ لم يكتب له أن يرى النور، بعدما بشرت عبثاً بولادته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس عام ٢٠٠٦ في خضم حرب تموز، قبل أن ينهل انتصار محور المقاومة التراب عليه جنيناً.

ومن بين الحرائق التي لا يزال لهيبها يغشي حواضر وادي الفرات في دير الزور والميادين والبوكمال، وفوق ركام الحواضر العربية في الموصل وحلب والرقة التي لم تشهد إعصاراً من الخراب يماثل ما يحيق بها اليوم، منذ الاجتياح المغولي قبل تسعة قرون، ينقشع من بين أعمدة الدخان شرق أوسع، فوق أنقاض ما تبقى من الشرق الأوسط.

كانت مكافحة الإرهاب عبر الحرب على تنظيم «داعش» بوابة هذا الانتصار. وكانت الولايات المتحدة قد حاولت العودة من البوابة نفسها بعد طردها من العراق عام ٢٠١١. شكّل اقتحام «داعش» مدينة الموصل في الرابع عشر من حزيران ٢٠١٤، ذريعة للأميركيين لكي يقوموا بإعادة الانتشار عسكرياً وسياسياً في العراق أولاً، عبر إرسال الخبراء وقوات خاصة، والتوسع في قواعد الجيش العراقي والبيمشركة. وتدخل الأميركيون عسكرياً في سوريا، انطلاقاً من معركة كوباني بالتنسيق مع الأكراد، وأقاموا التحالف الدولي الذي جُمع في سماء العراق، وبعض قواعد الشمال السوري الكردية. ورغم بقاء عدد الأميركيين محدوداً على الأرض، ويمكن القول إن إسهامهم في العمليات الجوية وقصف مواقع «داعش» ظل محدود الفعالية، بالمقارنة مع عمليات القصف الجوي، والمعارك البرية الواسعة، خصوصاً التي شنّها محور المقاومة بالتعاون مع روسيا، وإليها يعود الفضل في حسم المعارك ضد «داعش»، لا سيما في الشرق السوري.

وعندما سقطت البوكمال، فتحت نهائياً الطريق الذي يربط أطراف محور المقاومة بعضهم ببعض، وعزّزت علاقاته بروسيا والصين الذي وقف إلى جانب محور المقاومة. وتطورت العلاقات، خلال السنوات السبع من الحرب في سوريا والعراق، بين الصين وروسيا ومحور المقاومة، بعدما دخلت روسيا طرفاً مباشراً في المواجهة.

وكان صيف عام ٢٠١٥، قد شهد منعطفاً جدياً في هجمات «القاعدة» والمجموعات المسلّحة التي اجتاحت إدلب، واعتبر تشرين الثاني موعداً محتملاً ضمن قيادات أركان المنطقة، وغرف العمليات المنتشرة في عمان وتركيا، لساعة الصفر لإطلاق حسم عسكري يطال دمشق. وفي الثلاثين من أيلول ٢٠١٥، بدأ هجوم محور المقاومة المعاكس، وتحوّل الساحل السوري، انطلاقاً من حميميم إلى قاعدة عمليات جوية دمّرت البنى التحتية للمجموعات المسلّحة، وأعاد محور المقاومة من حزب الله والجيش السوري، والقوات العراقية، تنظيم الانتشار وشن عمليات برية واسعة، تُوّجت بهزيمة المجموعات المسلّحة، و«جبهة النصرة» التي خرجت من شرق حلب، بعد أربعة أعوام على احتلالها.

لكن المرحلة التالية كانت الأساس في ما نتحدث عنه اليوم من التمدد من الشرق الأوسط إلى الشرق الأوسع. تفرّغ محور المقاومة مع الحلفاء للقتال ضد «داعش» في الشرق السوري، مع التركيز على إعادة ربط سوريا والعراق مجدداً، واجتاز وادي الفرات الذي كانت الولايات المتحدة تحاول عبثاً سدّه مع الأكراد. كانت المقاتلات الروسية شريكاً حاسماً في صنع الانتصار، وكانت الصين داعماً سياسياً مهماً، لكن هناك دافعاً أعمق للانتقال من التعاون الاستراتيجي إلى الشراكة بين جميع الأطراف، لأنها تعد نفسها مستهدفة جميعاً من الولايات المتحدة، وفي ساحات مختلفة اجتمعت كلّها في سوريا.

إن ما تجمع كل هذه الأطراف، من روسيا إلى الصين إلى إيران فتركيا، سعيها الماضي إلى بناء ندية مع الولايات المتحدة. بل إن بعضها كان يطمح إلى تطوير شراكة معها، ولكنّها خرجت جميعاً تباعاً من تجربتها الأميركية بخفيّ حنين، لتنضم إلى نادي الخائبين.

روسيا مثلاً، سعت إلى بناء علاقات ندية مع الولايات المتحدة، وتعاونت معها في الحرب على الإرهاب في أفغانستان، وصحيح أنها عارضت عملية «الصدم والترويع» الأميركية في العراق ٢٠٠٣، لكنّها كانت معارضة مبدئية لم تتبعها أي خطوة عملية، كما أنها لم تمنع الحرب في النهاية. وكانت في مواقع أخرى، في الواقع، تمالئ السياسة الأميركية، فلم تتخذ موقفاً ضد الحرب الإسرائيلية، في تموز ٢٠٠٦، أو في الحروب الإسرائيلية التي تلت ضد غزة ٢٠٠٨، ٢٠١٠، ٢٠١٢، ٢٠١٤. ولم يكن لها مواقف روسية معادية لأميركا، فيما كانت تعتقد أن سياسة فك الاشتباك مع الغرب والولايات المتحدة، ستدفع الغرب والأميركيين إلى مساعدتها لتطوير القاعدة الصناعية والتكنولوجية فيها. لكن ما حدث هو أن الولايات المتحدة لم تتوقف عن محاولة الوصول إلى حدود روسيا نفسها، بعدما أنجز «حلف شمال الأطلسي» اختراق الطوق السوفياتي القديم. وعندما قال بيان قمة الحلف في براغ في نيسان ٢٠٠٨، إن جورجيا وأوكرانيا مرشحتان بديهيتان للانضمام إلى الحلف، اعترضت روسيا بالنار وانتهزت فرصة الخلاف على استقلال أبخازيا عن جورجيا، لتوجه رسالة قوية رداً على وصول الحلف الى حدودها، وقامت بعملية عسكرية واسعة في آب عام ٢٠٠٨، وضعت خلالها حداً مؤقتاً لتوسع الحلف شرقاً، قبل أن يعاود الكرة في أوكرانيا، حيث رد الروس مجدداً بضم جزيرة القرم، ودعم مجموعات شرق أوكرانيا المعادية لكييف.

بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، راهن البعض على تحسن العلاقات الروسية ــ الأميركية. كان ترامب يطرح فكرة التقارب مع روسيا لحل الأزمة السورية من جهة، وشرطاً لا بد منه للتفرغ وللالتفات شرقاً نحو الصين. ويمكن العودة إلى مايكل كلير، الخبير الأميركي في الشؤون الاستراتيجية، في ما خلص إليه من أن «الدولة العميقة في الولايات المتحدة، ممثلة بالبنتاغون والأجهزة الأمنية، والجناح الكلينتوني، وتيار المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري، تمكنت من إفشال مساعي ترامب، ودفع العلاقات الأميركية ــ الروسية إلى حافة الهاوية مجدداً». من نتائج ذلك، تعزيز وجهة نظر الفريق الذي كان يعتبر في منظومة الرئيس فلاديمير بوتين، أن التوجه نحو الشرق، وبناء فضاء أوراسي، هو الرهان الأصح بالنسبة لروسيا ومصالحها. لقد تمّت ترجمة ذلك في مجالات التعاون التسليحي، والمناورات المشتركة مع الصين، ومضاعفة الاستثمارات بين الطرفين، والتي أسهمت إلى حد كبير في مواجهة استراتيجية التطويق والاحتواء الغربية التي واجهتها روسيا، من العقوبات الاقتصادية والتجارية وصولاً إلى تطويق روسيا في البر الأوروبي بمنظومة الدرع الصاروخي، لا سيما في أوروبا الشرقية، ونشر وحدات «حلف الأطلسي» الأميركية في جمهوريات البلطيق.

أما الصين، فكانت ماضية في سياسة الصعود السلمي المستند إلى التطوير النوعي لقدراتها الاقتصادية والتجارية، والتحوّل الى قوة عظمى من دون حروب أو استعمار. وكانت تستبعد في سياستها الخارجية منذ الثمانينيات، أي مواجهة سياسية أو عسكرية مع الولايات المتحدة، استثنت منها تايوان وجوارها المباشر في بحر الصين. وذهبت كتلة واسعة من الحزب الشيوعي الصيني، مطلع الألفية الثالثة، إلى الرهان على إمكانية بناء شراكة مع الولايات المتحدة في إدارة شؤون العالم، وفي معادلة الاثنين الكبار، بديلاً للدول الثمانية الكبرى، آنذاك. لكن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، للاستدارة نحو الشرق لمواجهة صعود الصين، وحماية حلفاء الولايات المتحدة من النفوذ الصيني المتعاظم، أعاد الحسابات الصينية إلى مربع الخيبة. وتزايد التباعد مع سلسلة الاتفاقات العسكرية التي عقدتها الولايات المتحدة في إطار محاصرة البر الصيني. بدأت مع فييتنام أولاً، تلتها إندونيسيا والفيليبين، وإنشاء قاعدة عسكرية في أستراليا، ونشر صواريخ «ثاد» المضادة للصواريخ في كوريا الجنوبية في تموز من العام الماضي، فاعتبرها كل من الصين وروسيا تهديداً مباشراً لأمنهما القومي.

تعزّز اتجاه المواجهة مع استمرار الولايات المتحدة في نشر أكثر من خمسين في المئة من قوتها البحرية في منطقة اسيا ـ المحيط الهادئ، في الجوار الصيني المباشر، يقيناً أن سياسة ترامب استمرار لسياسة سلفه، ممّا دفع الصين إلى المزيد من تعزيز علاقاتها مع روسيا ومع إيران. وذهبت إلى إقامة القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي العام الماضي، وهي القاعدة العسكرية الأولى في تاريخ جمهورية الصين الشعبية المعاصر، وقد لا تكون سوى البداية في استراتيجية الانتشار الصيني لمواجهة الحصار في البر والبحر الصينيين. وعندما جاء التحكيم الدولي لينزع من بكين سيادتها على بحر الصين الجنوبي، وصلت سياسة الصعود السلمي إلى لحظة الحقيقة.

أما الخيبة الإيرانية، فليست مستجدة. ولكن السعي الجاد للرئيس باراك أوباما إلى الانفتاح على إيران مجدداً، عبر توقيع الاتفاق النووي في ١٤ تموز من ٢٠١٥، كان رهاناً على صفقة مزدوجة، رغم الضغوط الهائلة الإسرائيلية والسعودية، وخطاب بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس. كانت الصفقة تمنح الإصلاحيين والرئيس حسن روحاني دفعاً جديداً في مواجهة المحافظين لتأجيج الصراع الداخلي بينهما، والنفخ في رماد «الثورة الخضراء» التي انطفأ لظاها في المهد عام ٢٠٠٩. لكن رهانها الكبير كان يجري على تحييد إيران في سياق تهدئة صراعات الشرق الأوسط، للتفرغ لمحاصرة الصين شرقاً.

ولكن مفاجأة دونالد ترامب الرئاسية، وفريقه المسكون بالعداء الوجودي لإيران، خيّب كل الرهانات، وأسقط حسابات إيرانية وأميركية بالعودة إلى علاقات ندية مع الولايات المتحدة. أما تركيا، فكانت خيبتها من عيار أكبر، خصوصاً أنها كانت حليفاً أساسياً على الجناح الجنوبي لـ«حلف شمال الأطلسي»، منذ تأسيسه عام ١٩٤٩، وقد لعبت دوراً كبيراً في الردع الصاروخي، خلال الحرب الباردة. أصيبت أجندة الرئيس طيب رجب أردوغان، بنكسة كبيرة في سوريا. إذ لم يحظَ بالدعم العسكري والسياسي الأميركي المنتظر لتنفيذ مشروعه في سوريا. وعندما انطفأت أنوار القمة التي جمعت أردوغان بأوباما في واشنطن، في أيار ٢٠١٣، عاد منها خائباً، إذ رفض الرئيس أوباما الانخراط في عملية تركية أميركية أطلسية واسعة في الشمال السوري. واعتبر الأتراك الدعم الأميركي العسكري للأكراد طعنة في الظهر. وتحوّل اللعب الأميركي بالورقة الكردية في سوريا إلى مصدر للتوتر المتصاعد بين الطرفين، خصوصاً أن واشنطن أنجزت تحويل فرع «حزب العمال الكردستاني» في سوريا، إلى قوة منظمة ومسلحة تسليحاً جيداً قادرة على تحويل الشمال السوري، إلى قاعدة خلفية لحزب «العمال الكردستاني»، يهدّد منها جنوب الأناضول، والأمن القومي التركي. ومنذ ذلك الحين، تدهورت العلاقات بين الطرفين. لم يسهم منعطف الانقلاب العسكري، في تموز من عام ٢٠١٥، في رأب الفجوة، خصوصاً أن أردوغان اعتبر ما حدث مؤامرة دبرت في واشنطن. لكن تلك الخيبات لم تكن سوى استكمالاً لخيبة مؤسسة عندما وقفت تركيا أكثر من خمسة عقود متتالية تتسول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي استغرقت مفاوضات الانضمام إليه أكثر من عقدين من دون نتيجة، فيما كانت أبوابه تشرع لدول شرق أوروبا. أصيب الوجدان القومي التركي بصدمة نفسية ثقافية وسياسية، أسهمت في تأسيس تيار «اوراسي»، بحسب تعبير الكاتب التركي جنكيز تشاندار. شكّل هذا التيار كتلة داعمة للخيارات السياسية والجيوسياسية الجديدة لأردوغان. ولاقت هذه الانعطافة ورسختها، العروض السخية الروسية والصينية في مشروعي السيل التركي، وطريق الحرير الجديد، وإطلاق عملية سياسية إيرانية روسية مشتركة في سوريا من أستانا، منذ أحد عشر شهراً، شكّلت مفترقاً جدياً لإنهاء الأزمة في سوريا.

إن خيبات هذه الدول المحورية، تدفعهم إلى المزيد من التعاون لبناء فضاء بات يمتد من ساحل المتوسط، إلى الشرق الأقصى. سقط مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومنذ البوكمال ارتسمت معالم الشرق الاوسع المتحرر من الهيمنة الأميركية من بيروت، فدمشق، فبغداد، فطهران، فبكين.

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى