مقالات مختارة

«منبج».. قلب العالم محمد نورالدين

 

يدور التاريخ دورات كاملة، ويحط فجأة عند أماكن أو أشخاص لم يكن مقدراً لهم في يوم من الأيام أن يكونوا واجهة الأحداث ومحطة مفصلية في مسار التطورات.

هذا هو حال مدينة منبج ومنطقتها أو ريفها في أقصى الشمال الغربي السوري.

تعطي الحروب الفرصة لكمّ هائل من الأماكن لكي تتحول إلى حديث الألسن والإعلام. دارت الحرب السورية دورتها التي لم تكتمل بعد، وحطت ولو مرحلياً في مدينة منبج.

عندما دخلت قوات «درع الفرات» التركية إلى سوريا في 24 آب/أغسطس الماضي كان الشعار المعلن أنها تريد تنظيف المنطقة الحدودية داخل سوريا من «داعش» التنظيم الذي كان يطلق صواريخ أحياناً على الداخل التركي، كما كانت أنقرة تقول.

لكن بعد مضي الوقت وسيطرة الجيش التركي على الشريط الحدودي بين جرابلس وأعزاز، قالت أنقرة إنها تريد أن تمنع اتصال المناطق الكردية في عين العرب/كوباني بعفرين الكردية أيضاً. وأخرجت أنقرة من تحت إبطها الهدف الثاني وربما الأول من عملية درع الفرات. وهذا بات يتطلب أن تمنع اتصال الكانتونات الكردية عبر جنوب الشريط الحدودي أي عبر منطقة «الباب».

كان التفاهم مع روسيا لا يشير إلى تقدم الأتراك إلى الباب. لذا لم يكونوا يصرحون بذلك في بدايات العملية. لكنّ المحللين المؤيدين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان كانوا يؤكدون على أن الجيش التركي سيتقدم ليسيطر على الباب.

توقفت تركيا طويلاً أمام باب «الباب». ولكن عندما جاء دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية وتحدث عن إقامة مناطق آمنة تجرعت أنقرة حليب السباع ودخلت الباب عنوة عن الروس. كان ذلك انتهاكا للاتفاق مع الروس. وكان الروس منزعجين جداً من هذا الإخلال بالوعود.

لم يشأ الروس أن يدخلوا في مواجهة مباشرة مع الأتراك فهم أدركوا أن أنقرة تنتهز الفرص وتناور وتلعب على التناقضات.

لكن الرد الروسي لم يتأخر وكان بالفعل غاية في الدهاء. دخلت تركيا الباب، لكنها لن تستطيع الخروج منها. فقد أصبحت محاطة من قوى سيكون الصدام معها حساساً ودقيقاً وله حساباته.

تقدم الجيش السوري بدعم روسي وسيطر على كل المنطقة الداعشية المحيطة بالباب من جهتيها الجنوبية والشرقية بحيث باتت القوات التركية على تماس مباشر مع الجيش السوري النظامي، من جهة ومع قوات الحماية الكردية المتمركزة في منبج من جهة أخرى.

سيطرة الجيش السوري جنوب وغربي الباب كان خطوة واضحة ضد التمدد التركي ومنعه من التقدم أكثر بحجة وجود «داعش». الآن لم يعد هناك «داعش» وبالتالي افتقد الأتراك للذريعة، وغير قادرين بسبب الفيتو الروسي على الاصطدام بالجيش السوري والتقدم نحو الرقة في ما لو أرادوا. لم تكتف روسيا بهذه الخطة، بل عملت وبالتفاهم الضمني مع أمريكا على تمديد انتشار الجيش السوري ليتموضع في الشريط الجغرافي الفاصل بين منطقة منبج حيث الأكراد، ومناطق انتشار «قوات درع الفرات». وبذلك فصل الجيش السوري بين القوات الكردية والقوات التركية ولم تعد «قوات درع الفرات» على تماس مباشر مع قوات الحماية الكردية. وبذلك قطعت روسيا وأمريكا الطريق أمام الجيش التركي لينتزع منبج من يد الأكراد.

بهذا أصبحت «قوات درع الفرات» داخل سوريا محاصرة في ما يشبه القوس من عفرين غربا إلى شمال حلب وجنوب الباب ومن ثم صعوداً إلى خط ريف منبج شرقاً.

هذا التطور يحمل دلالات كثيرة من بينها أن حدود التوسع التركي قد توقفت. وأن تركيا ستقف منذ اليوم عاجزة عن تصعيد تأثيرها في التطورات إلا إذا قررت التمرد وتغيير قواعد اللعبة. ومن الدلالات أن واشنطن في عهد ترامب لم تغير كثيراً من سياساتها لجهة التحالف مع قوات الحماية الكردية وعصبها حزب الاتحاد الديموقراطي، والتي تعتبرها تركيا إرهابية، وهذا ما سيعقد الأمور بين أنقرة وواشنطن.

على ما يبدو فإن سوريا تشهد تطورات ميدانية كما سياسية لا تريح تركيا التي ستصب اهتمامها على تثبيت تمركزها في المناطق التي سيطرت عليها في انتظار انفتاح فرص أخرى.

(الخليج)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى