مقالات مختارة

تركيا والتحول الوشيك نحو الشرق أ.قدير يلدريم

 

ابتعاد تركيا عن الغرب منذ المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو الماضي تكتيك متعمّد لتعزيز قاعدة الدعم المحلي للحكومة والاضطلاع بدور إقليمي أقوى .

18 آب/ أغسطس 2016

في أعقاب المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو الماضي، يبدو أن السياسة الخارجية التركية وجّهت أنظارها نحو الشرق. يعكس هذا التحول، خلافاً للاعتقادات السابقة، خياراً متعمداً اتّخذته تركيا، ويعود إلى ما قبل مرحلة 15 تموز/يوليو. الدافع وراء هذا التغيير هو الرغبة في تعزيز مكانة الحكومة داخلياً واعتماد سياسة خارجية أكثر استقلالية وقوة. تحض التحاليل الراهنة للسياسة الخارجية التركية الغرب على إظهار تضامن أكبر مع المسؤولين المنتخبين الأتراك والمواطنين الذين عارضوا التدخلات غير الديمقراطية. تشير هذه التحليلات إلى أن تركيا بحاجة إلى “أصدقاء منطقيين” في هذا الظرف – الذي شهد اعتقال عشرات آلاف الأشخاص وحجزهم وصرفهم من عملهم ومحاكمتهم وتعذيبهم بتهمة التخطيط للانقلاب أو الإرهاب. يفترض المحللون أن الحكومة التركية تتّبع نمط البقاء عبر الاكتفاء بالاستجابة للتطورات المحلية والدولية. في حال خرجت تركيا من المدار الغربي، سوف يُلقى اللوم مباشرةً على الغرب لإخفاقه في التجاوب مع المطالب التركية، كما جاء على لسان وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو. بحسب هذا الرأي، تحتاج تركيا إلى معاملة استثنائية في هذه المرحلة من التهديد الوجودي، وينبغي على العرب أن “يتفهّم” تركيا، في إشارة ضمنية إلى فشل الغرب في تفهم الأوضاع المصرية في العام 2013.

بيد أن هذه التحاليل تغفل عن الطبيعة الحميمة والتفاعلية و”المتشابكة” للسياسات الخارجية والمحلية. فمثلما أن السياسة الخارجية قادرة على رسم اتجاه السياسة المحلية، بإمكان اعتبارات السياسة المحلية أن تطبع السياسة الخارجية في شكل حاسم.

ليس الانفصال التركي المتوقَّع قريباً عن الكتلة الغربية الأول من نوعه في الشرق الأوسط، بل يتشارك نقاط تشابه مهمة مع انفصال مصر عن الغرب في عهد جمال عبد الناصر أو انفصال إيران عن الغرب في ظل روح الله الخميني، لناحية العناصر الشعبوية في نزعة العداء للولايات المتحدة وللغرب. يؤجّج القادة الشعبيون هذه المشاعر لدى السكّان الذين يبحثون بتلهّف عن جهة يلقون اللوم عليها. لكن على الرغم من هذه الخصائص المشتركة، لا تملي المعطيات الجيوسياسية التحوّل في السياسة الخارجية التركية. فتركيا لا تزال تتمتع بقيمة كبيرة نظراً إلى أهميتها الاستراتيجية بالنسبة إلى الغرب، وهذا ما أكّدت عليه من جديد الزيارات التي قام بها مسؤولون أميركيون وأوروبيون. كما أن الاقتناعات الأيديولوجية للحكومة الحالية و”التسمم الغربي” المتصوَّر لا يفسّران مثل هذا التحوّل الدراماتيكي. فالأيديولوجيا الإسلامية لحزب العدالة والتنمية لم تحل دون اتّباعه سياسة خارجية غربية الطابع بطريقة واضحة طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

المناورات التي تلجأ إليها تركيا في السياسة الخارجية رداً على المحاولة الانقلابية متعمدة ومدروسة وتأتي نتيجة خيارٍ اتّخذه المعنيون – وليست رد فعل أو قراراً عاطفياً، بحسب الاعتقاد الشائع. يخدم التعديل المرتقب في توجُّه السياسة التركية أهدافاً محلية ودولية على السواء. فعلى المستوى المحلي، يسعى إلى تعزيز قاعدة الدعم للحكومة، لا سيما على ضوء زيادة الانتقادات لاضمحلال الحريات في البلاد. لقد ولّدت المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو أجواءً كاد الناس ينسون فيها مزاعم الفساد التي انتشرت على نطاق واسع اعتباراً من العام 2013 ضد شخصيات قيادية في حزب العدالة والتنمية، منهم الرئيس رجب طيب أردوغان. لكن تدقيقاً دولياً جديداً انطلق في اتهامات الفساد على خلفية تطورَين اثنين. فقد جرى اعتقال مواطن إيراني-تركي يدعى رضا زراب، في ميامي بتهمة التهرب من العقوبات الإيرانية. تشير وثائق صادرة سابقاً عن المحكمة بأنه كانت تجمعه روابط عدة بمسؤولين أتراك كبار. وفي إيطاليا، يخضع بلال، نجل الرئيس أردوغان، للتحقيق بتهمة “تبييض مبلغ قدره حوالي مليار يورو (1.12 مليار دولار أميركي)”. يمكن أن تتسبّب القضيتان بخسارة الحكومة التركية المكاسب التي حققتها في تثبيت شرعيتها في الداخل منذ العام 2013.

في الأعوام الأخيرة، أتقنت الحكومة التركية فنّ توجيه المشاعر العامة انطلاقاً من اعتبارات قومية وإثنية ودينية، فحشدت الدعم من أكثريات كبيرة. ليس صدفة أن الولايات المتحدة أصبحت محط الشكوك العامة في أعقاب محاولة الانقلاب في 15 تموز/يوليو (إما بصورة مباشرة عبر اتهامها بتنظيم الانقلاب، أو بصورة غير مباشرة عبر اتهامها بتحريض فتح الله غولن). يعتبر عدد كبير من الأتراك أن “الولايات المتحدة تريد إلحاق الضرر بأردوغان لأنه قائد قوي حوّل تركيا إلى قوة إقليمية”. كما أن مشاحنات المسؤولين الأتراك مع رئيسَي الوزراء الإيطالي والنمساوي ضربت وتراً حسّاساً. والرسائل القوية التي يوجّهها مسؤولون أتراك لإعادة العمل بعقوبة الإعدام تعرّض مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي للخطر. يشكّل تأجيج العداء للولايات المتحدة وسيلة فعّالة للتعامل استباقياً مع التدقيق الدولي المحتمل؛ فالموجة الأخيرة من مشاعر العداء للولايات المتحدة تهدف إلى تجريد أي قرار قد يصدر في المستقبل عن محاكم أميركية أو إيطالية من المصداقية ووضعه في خانة التدخّلات الأجنبية. لا يبالي من يعملون على تأجيج هذه العداوة بأنه ليست لدى الولايات المتحدة، في الواقع، مصلحة استراتيجية في تقويض النفوذ التركي بواسطة انقلاب أو غير ذلك.

على الصعيد الدولي، من شأن التحول في السياسة الخارجية أن يمنح تركيا استقلالية أكبر في تنفيذ تطلعاتها الإقليمية (الحافلة بالمغامرة على الأرجح)؛ فهو يعكس خياراً متعمداً من الجانب التركي. في هذا الإطار، ترتدي التغييرات الواسعة النطاق على مستوى كبار الضباط في الجيش منذ 15 تموز/يوليو، أهمّية محورية. ليست لدينا حتى الآن صورة واضحة عما حدث في 15 تموز/يوليو، لكننا نعلم أن معظم الجنرالات الذين جرى تسريحهم كانوا موالين لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقد اشتكى الجنرالات الأميركيون من تسريحهم معربين عن مخاوفهم من “التأثيرات التي يمكن أن يمارسها الانقلاب الفاشل ’في المدى الأطول‘ على عمليات مكافحة الإرهاب”. في نقطة أساسية، سوف يُملأ الفراغ في الجيش التركي عبر تعيين جنرالات مقرّبين من “المواقف الأوراسية والمؤيدة لعدم الانحياز”، ما يُحدث تحولاً في “الثقافة الاستراتيجية” للمؤسسة العسكرية. وهذا لن يكون تحولاً عادياً. لقد شكّل الجيش، لا سيما القيادة الموالية للناتو، الآلية الوحيدة التي تحول دون وضع سياسة خارجية هشّة في الأعوام الأخيرة. وخير مثال على ذلك السياسة التركية في الملف السوري وتمسّك القيادة العسكرية بموقفها. تسريح نحو 45 في المئة من الجنرالات خطوة كبيرة بجميع المقاييس، وتؤشّر إلى تخطيط متأنٍّ لإعادة تكوين هيكلية الجيش.

التطلع التركي إلى تأدية دور أكبر في المنطقة متجذّر في الرغبة في إعادة إحياء منظومة نيو-عثمانية حيث تؤدّي تركيا دوراً قيادياً في الشرق الأوسط. قبل بدء الفوضى السورية، سعت تركيا إلى تحقيق هذا الهدف من خلال اقتصادها المزدهر وإنشاء مناطق نفوذ في مختلف أنحاء المنطقة عن طريقة السياسة الخيالية التي وضعها رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو تحت عنوان “صفر مشكلات”. لكن هذه المقاربة فشلت منذ تفكّكت سوريا. واعتمدت الحكومة الحالية، بدلاً منها، سياسة “الردع العسكري”. يتسبّب التزام تركيا بالناتو، وحلفها مع الولايات المتحدة، والجنرالات الموالون للناتو في صفوف الجيش، بعرقلة السعي إلى تطبيق هذه السياسة الخارجية المستقلة الجديدة. وتؤدّي حملة التطهير في الهرمية العليا في الجيش التركي دوراً مصيرياً في هذا السياق.

واقع الحال هو أن المسار الجديد في السياسة الخارجية الذي تطمح إليه الحكومة التركية استغلّ محاولة الانقلاب لمصلحته. فعبر الإشارة بأصابع الاتهام إلى الغرب ووصفه بأنه ساعد على تنفيذ الانقلاب، جرى اختلاق تبرير لفتح صفحة جديدة في السياسة الخارجية من أجل ضمان الاستقرار في الداخل. وكذلك عبر تصوير الانقلاب الفاشل بأنه مدعوم من الغرب ويشكّل بالتالي تهديداً للأمن القومي، جرى فرض مجموعة كاملة من السياسات التقييدية فضلاً عن اللجوء إلى التعذيب وقمع المعارضين – وحظي ذلك كله بدعم شعبي واسع. بناءً عليه، لا يمكن فهم أبعاد التطور السريع في السياسة التركية من دون الإقرار بالرابط بين السياسات المحلية والخارجية.

تُنذر التطورات الراهنة في تركيا بأن السياسة الخارجية الأميركية ستجد صعوبة أكبر في التعامل مع شؤون الشرق الأوسط. ليس واضحاً إذا كانت الزيارات الرفيعة المستوى التي يقوم بها مسؤولون على غرار وزير الخارجية الأميركي جون كيري ستساهم في تهدئة الأجواء التي قد تنكشف إلى العلن في الأسابيع المقبلة. على الرغم من بعض الأصوات الانتقادية داخل الاتحاد الأوروبي، والتي تدعو إلى “نوع جديد من العلاقة”، والطبيعة غير الموثوقة أكثر فأكثر للتعاون التركي مع الغرب، يجب أن يشكّل الحفاظ على الشراكة بين تركيا من جهة والولايات المتحدة والغرب من جهة ثانية أولوية. هذا الأمر ضروري لأسباب استراتيجية بالنسبة إلى الفريقَين، ومن أجل تحسين أوضاع حقوق الإنسان والدمقرطة في تركيا.

أ.قدير يلدريم باحث في معهد بايكر للسياسة العامة متخصص بالشؤون التركية

معهد كارينغي

http://carnegieendowment.org/sada/?fa=64359&lang=ar&mkt_tok=eyJpIjoiTWpJeE1HTmxObU5rWmpObCIsInQiOiIzcUFrYmRkUk9CNFplYTBNN0NKUTQ3YmZHRUQ5S1p6Qlg2RUd0RXk3RU9GTVpWbUJpK0VkZ2xTY1I5amZDMXpMR1VHUmI1SXFiR3RDN1M5NXhIYjFmeHVmSE9ncTMwTlJ4TWZkTnVOSWlKVT0ifQ%3D%3D

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى