مقالات مختارة

قضية امين معلوف…عن سوء فهم مذهل فيصل جلول

 

كان يمكن لقضية الكاتب الفرنسي من اصول لبنانية “امين معلوف” ان تحتل عناوين الصحف الاولى لو انفجرت في الثمانينات او التسعينات ولربما ايضا في السنوات الاولى من الالفية الثالثة؟ اما اليوم وبعد الانهيارات التي سجلت في عدد من دول المشرق العربي المحسوبة على محور الممانعة وبعد احاديث معلنة عن التطبيع العربي مع اسرائيل فان هذه القضية حظيت باهتمام مجموعة واحدة في لبنان ولم تحظى بتاييد واسع في العالم العربي والاسلامي .

للتذكير فان مجموعة المقاطعة اللبنانية والعربية للدولة العبرية شجبت ادلاء امين معلوف بحديث ل لمحطة أ 24 الاسرائيلية عن كتابه الاخير” كرسي على نهر السين ” ودعت لمحاكمته بجرم التطبيع مع العدو الاسرائيلي وحتى الان لم يصدر عن الكاتب رد فعل في هذه القضية.

المتابع للروائي الفرنسي الذي بلغ اعلى الهرم الثقافي في باريس عبر اختياره عضوا في الاكاديمية الفرنسية التي تضم نخبة النخبة في هذا البلد يلاحظ بوضوح انه ما عاد يعير فضاءه اللبناني السابق اهتماما يذكر وتركزت اعماله الروائية على اندماجه الفرنسي المطلق وبالتالي صار يتوجب على الذين ينظرون الى مواقفه وافعاله ان ياخذوا هذا الانتقال من ضفة الى ضفة بعين الاعتبار وبالتالي الكف عن تنسيبه الى عالمهم فتلك ليست رغبته وانما رغبتهم.

في وقت مبكر وفور حصوله على جائزة ال غونكور عام 1993 كتب المعلق الفرنسي الشهير فرانز اوليفييه جيزبير في صحيفة ال ” فيغارو” بما معناه ان نيل روائي فرنسي من اصول لبنانية لهذه الجائزة يحمل معنى رائعا ذلك لان الفضاء الثقافي الفرنسي يحتاج لمن يحمله الى العالم وبما ان “عديدنا نحن الفرنسيين” ليس كافيا لتولي هذه المهمة فان اشخاصا كالسيد معلوف هم امتداد لنا في حمل ثقافة رايناها دائما عالمية وجذابة.

كان كلام جيزبير اشبه بكلام الساسة الفرنسيين في القرنين التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين خلال الفترة الاستعمارية ومفاده ان الفرنسيين عددهم لا يكفي “لتحضير وتحديث” مستعمراتهم وحمايتها من المناهضين والظلاميين وبالتالي يحتاجون دائما الى “شركاء” محليين يشكلون امتدادا لهم وعليه كان الجيش الفرنسي الكولونيالي يضم فرقا سنغالية واخرى جزائرية وفييتنامية وافريقية … الخ. والمقارنة تعني ان المعلق الفرنسي يرى الروائي اللبناني الاصل في موقع “القناص السنغالي” لكن في الفضاء الثقافي الفرنسي بدلا من العسكري ورؤية جيزبير هي الاقرب الى الواقع. فالسيد معلوف انتج ادبه بلغة فرنسية يحسده الفرنسيون على جودتها واختار مواضيع رواياته وفق ذائقتهم التي يمكن اعتبارها بلا تردد عالمية وسائدة بمعايير جمالية لا جدال في سطوتها.

والواضح ان معلوف ما كان عفويا وما كان بريئا فهو يدرك قواعد اللعبة عن سابق تصور وتصميم ولعل تجربته السياسية والاعلامية اللبنانية تفيد في تفسير التالي والاهم في سيرته فقد نشأ في صحيفة لبنانية كان رئيس تحريرها من عرابي اتفاق 17 ايار ـــــ مايو عام 1983 ويفيد بعض الشهود الى ان معلوف نفسه كان من المساهمين في صياغة هذا الاتفاق لكن في الظل ومع اننا لا نملك تاكيدات مباشرة من الكاتب الا ان حضوره في تفاصيل تلك الفترة ثابت ومعروف والارجح ان فشل تلك المحاولة كان وراء استقراره في فرنسا نهائيا .

وفي السياق اللاحق نرى ما يؤكد هذا المنحى ولعل اختيارات معلوف الروائية وابداعه في انتاجها ومكافاته عليها بجوائز وكراس معنوية راقية ينبيء بانه لا يقيم فرقا بين عالمه السابق اي عالم الولادة والنشاة وعالمه الجديد الاندماجي. ان “صخرة طانيوس” هي جزء لا يتجزأ من “الاكزوتيسم” الذي طبع ويطبع ذائقة فرنسيين و”فرانكوفونيين” تجمع تراث بلدهم الثقافي من الفترة الكولونيالية الغنية بكل الغرائبيات والاختلافات التي تؤكد علوهم ومتبوعيتهم .

اما “ليون الافريقي” فهو الحسن الوزان المسلم الذي صار مسيحيا واختار ان يعمل وفق دينه الجديد في خدمة البابا ليون العاشر وهو واحد من امثلة قليلة معاكسة لتلك التي تشير الى اندماج النخب المسيحية في الحضارة الاسلامية وبالتالي العمل في خدمة الفاتحين الجدد.

واذا كانت الحروب الصليبية هي الحدث الشرقي الاهم والعابر للقرون في ذاكرة الاوروبيين والفرنسيين بخاصة فقد اختار معلوف رواة الحروب العرب لعرض رواية مقابلة في لعبة مرايا ذكية لم تلق النجاح المامول الا بعد ليون الافريقي.

في مرحلة لاحقة بدا الروائي الذي استقر في فرنسا ونال شهرة ومجدا قل نظيره في زمن قياسي بدأ بمناهضة الهويات كل الهويات بوصفها سجونا واسوارا وادوات قتل ودعا الى التعايش بين المتناقضين والمتعادين والمتحاربين الامر الذي يذكر بالمناخ الذي حاولت بعض النخب اللبنانية صياغته على هامش اتفاق 17 ايار . بيد ان الاهم هو ان الهويات هي ايضا حمالة تواريخ وحضارات ومصالح وبالتالي جديرة بالشراكة وليس بالتبعية او بصفة القتل .

من حق الروائي العالمي ان يكون طوباويا وان يختار الدفاع عن العالم الذي اختاره والحق انه لم يدع يوما ما تنسبه اليه مجموعة مقاطعة اسرائيل فالاكاديمي الفريد من نوعه امين لشروط موقعه الذي ناله بعد كفاح مرير ومنافسة شاقة وبالتالي ليس العداء للدولة العبرية بندا على جدول اعماله بل ربما لم تنتبه المجموعة الى انه صفع هويتها واعتبرها قاتلة..

اما ان يصر المقاطعون على تعريب الرجل ومساءلته على شراكة ضمنية معهم في العداء لاسرائيل فهو ينم عن سؤ فهم فظيع مرده الى الثقافة السياسية اللبنانية التي تعتبر ان اللبناني يظل لبنانيا وان كان اسمه فيليب حبيب وان كان مبعوثا للامبريالية الامريكية حامية اسرائيل وراعية حروبها في كل مكان ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى