مقالات مختارة

الاستطلاعات في الانتخابات الرئاسية الاميركية د.منذر سليمان

دقة الاستطلاعات

         بداية، جهود الاستقراء والتكهن للتوجهات في جملة من القضايا العامة لا ترتكز الى قواعد علمية رصينة، وان استخدمت وسائل علم الاحصاء، المعادلات الرياضية والجداول الخوارزمية لتحقيق نتائجها. اذ تستند اجراءاتها بشكل مجرد على “قدرة المؤسسة المشرفة استنباط عينة عشوائية صالحة من المواطنين،” في فترة زمنية محددة ودقيقة.

قبل نحو شهر ونيف اشارت عدة استطلاعات للرأي تفوق المرشحة عن الحزب الديموقراطي، هيلاري كلينتون، على منافسها دونالد ترامب بنسبة منزلتين حسابيتين. وما لبثت ان تلاشت الهوة واضحى المتنافسين متقاربين، ضمن هامش الخطأ المسموح حسابياً.

للتوقف عند تعارض القراءات والنتائج اوضح المدير السابق لدائرة الاحصاء المركزية، روبرت غروفز، ان “مخاطر فشل الاستطلاعات كي تعكس الحقائق البينة يزداد مع تقلص نسبة الاجابات. عنصر المجازفة ليس بيّناً في معظم الاحيان، بيد انه ومع تكرار نسب الاجابة المتدنية علينا التهيؤ لمزيد من التكهنات الخاطئة المستندة الى الاستطلاعات.” (نيويورك تايمز، 20 حزيران 2015)

تضارب النتائج المشار اليها، بين كلينتون وترامب، تعزى الى تقلص المتنافسين عن الحزب الجمهوري وميل اعداد لا بأس بها للاصطفاف خلف ترامب؛ الأمر الذي كان مستعصيا قراءته عند اجراء الاستطلاع.

رؤية الاخصائيين في الاستطلاعات، افرادا ومؤسسات، تخضع لعدة عوامل ومؤثرات، سياسية واقتصادية واجتماعية، اسوة بالعينات العشوائية. اما ما ينبغي توقعه في الاشهر القليلة المقبلة من نتائج وقراءات لا تشي باجماع معين.

في هذا الصدد، اوضح استاذ السياسة العامة والعلوم السياسية في جامعة رتغرز، كليف زوكين، ان نتائج الاستطلاعات وقراءة الاخصائيين “ستكون قليلة الوثوق بها. بل قد لا نستطيع تلمس متى ستجنح نحو المسار الخطأ.” وما يعنيه في نهاية المطاف هو ان “استطلاعات عام 2016 ستكون عرضة للأخذ والرد.”

مؤسسات الاستطلاعات المختصة، بداية، لا تستند الى قواعد مشتركة صارمة في تحديد العينات، وبالتالي النتائج. في سعيها التحلي بالمصداقية والدقة، تتشاطر المؤسسات في قضايا ثلاث: المجموعة المشرفة على الاستطلاع؛ الهيئة او المجموعة المكلفة بالاستطلاع؛ والعوامل الداخلية الاخرى.

اضحت استطلاعات الرأي مصدرا هاما لدر الاموال في الحقبات الاخيرة من القرن العشرين وما تلاه، وشهدت الساحة الاميركية بزوغ عدد كبير من المجموعات المدعية بالاختصاص، ترافق مع تعاظم اعتماد المرشحين للمناصب الرسمية المختلفة، المحلية والوطنية، على توجهات الرأي العام المستند لتلك الاستنتاجات التي تخضع احيانا لعامل السرعة والسبق الاخباري لكسب شهرة اعلامية. وعليه، لا يستبعد جنوح بعض النتائج نحو التعريف المثير عوضا عن قراءة دقيقة للتوجهات.

من ابرز المؤسسات التقليدية المعتمدة مجموعتي “غالوب” و “هاريس،” اللتين تتعاونا مع كبريات المؤسسات والشبكات الاعلامية للقيام بالمهمة ورصد النتائج. ويشهد لهما في مجال اختصاصهما بالمهنية والمنهجية الصارمة، وليستا مستعدتين على التضحية بالمصداقية والمهنية. بل تعتبر نتائجهما مرآة تواكب النتائج العملية الى درجة عالية.

في الشق المقابل، يبرز “مركز ابحاث بيو” المخصص للنشاطات الاجتماعية غير الربحية، وتعتبر عينات استطلاعاته ونتائجها “اشدها مصداقية ووثوقا” من المؤسسات الاخرى.

اجرى المركز تقصيا داخليا لاجراءاته المعتمدة بغية التوقف عند قصورها وثغراتها، واستنتج ان عدد المتجاوبين مع الاستطلاع عن طريق الهاتف في المعدل لا تتعدى 10% من الاميركيين؛ بينما كانت النسبة مطلع الألفية نحو 36%.

المؤسسات الصحافية تعتبر زبونا دائما لمؤسسات الاستطلاع التجارية وتنشط في تكليف احداها لاجراء استطلاع معين،. لذا ينبغي التحلي بالحذر عند الاعتماد على نتائج اشرفت عليها مؤسسات صحافية بشكل خاص، اذ ان النتائج تعتبر جزءاً في سياق نبأ ما ترمي لتوجيه الرأي العام تبنيها. على سبيبل المثال، قضية بحجم وأهمية وضع اجراءات مراقبة على اقتناء الاسلحة الفردية، فقد يتم تكليف مؤسسة لاجراء استطلاع تشير نتائجه الى تأييد الاغلبية لوضع قيود مشددة على الاسلحة؛ وهكذا دواليك.

معاهد لا تتقن استخدام التقنية

عنصر الكلفة في ازدياد مضطر، والذي ينبغي اخذه بعين الاعتبار عند النظر بنتائج معينة. الكلفة ايضا تتحكم بطبيعة ونوعية الاسئلة المطروحة وأهلية المشرفين عليها. تتباين كلفة الاستنتاج للرأي من دولار واحد الى نحو 100 دولار لكل مرشح لاستطلاع رأيه، وقد تستغرق زهاء نصف ساعة للفرد لقراءة الاسئلة وتلقي الاجابات.

المؤسسات التجارية تسابق عامل الزمن في استكمال استطلاعاتها الهاتفية، وعادة ما ترتكز الى اجابة اي كان على الطرف الآخر من الهاتف، دون اشتراط توفر عوامل معينة. تجدر الاشارة الى ان البالغين وما فوق سن 21 ليسوا كلهم في تعداد الناخبين المسجلين، وربما بعضهم لا يعد ضمن سجلات المواطنين الاميركيين. وعليه، فان نتائج الاستطلاعات المختلفة تبنى على عوامل خارج العرف والقواعد العلمية، بل وشروط الهيئات المكلفة بالاستطلاع.

في انتخابات عام 2012 الرئاسية، تكهن معهد غالوب “الرصين” بفوز المرشح الجمهوري ميت رومني على منافسه باراك اوباما، واستند اليها الحزب الجمهوري في خطواته اللاحقة. بيد ان النتيجة كانت مغايرة تماما مما حفز المعهد اجراء تحقيق داخلي مكثف للوقوف على الفرضيات التي ثبت خطأها. وقال في تقريره الداخلي “غير المسبوق .. انه ارتكب عدد من الاخطاء في اختيار العينات، بمن فيها التركيبة العرقية والميول السياسية للمستطلعة اراءهم، فضلا عن الثغرات الكامنة في آلية العمل.”

وجاء في تقرير المعهد توصيات للمراكز الاخرى المعنية بالاستطلاعات لتحديث تقنياتها المعتمدة والتخلي عن “التناظري القديم وتبني التقنية الرقمية .. ومواكبة انتشار الهواتف الحديثة المحمولة وايجاد حلول لتراجع اهتمام العامة بالمشاركة في الاستطلاعات.”

في حال المرشحة كلينتون، نشر معهد هوفر نتائج استطلاع اجراه في ولاية كاليفورنيا، مطلع الاسبوع الماضي، دل فيه على تقدم كلينتون بنسبة 12% على منافسها ترامب. اقتصرت العينة على “البالغين” ولم تأخذ بعين الاعتبار توجهات الرأي العام في الولاية تحديدا وربما حصرت العينة بأراء ناخبين مسجلين في الحزب الديموقراطي.

اداء وشعبية الرئيس الاميركي محل اهتمام متواصل من مؤسسات استطلاعات الرأي. ونشر معهد غالوب نتائج استطلاع اجراه الاسبوع المنصرم يشير فيه الى ارتفاع ملحوظ في نسبة شعبية الرئيس اوباما بلغت 51%، مقابل 45%. بيد ان الاستطلاع اخفق الاخذ بعين الاعتبار احصائيات الدولة عن حالة الاقتصاد والبطالة التي دلت على زيادة طفيفة في عدد الوظائف المسجلة، بينما معاناة العاطلين عن العمل في ازدياد مضطرد.

في هذا السياق، تنبغي الاشارة الى نمطين من استطلاعات الرأي عبر الهاتف: الاول، استطلاع للناخبين المسجلين؛ والثاني استطلاع عام للبالغين. النمط الاول يعد اكثر مصداقية في اغلب الاحيان، خاصة في تحديد التوجه السياسي. تجمع المؤسسات المختصة على قاعدة الاستناد الى استطلاعات تجري بين ناخبين مسجلين وناخبين مرشحين كافضل وسيلة للتكهن بميل الرأي العام، ويخضع المستطلعة اراؤهم لعدد من الاستفسارات قبل المشاركة للتيقن من أهلية الناخب، كما تعتمد على السجلات الرسمية للناخبين بالتوجه اليهم كعينة والتي تعتبر اعلى كلفة من سابقتها العشوائية.

للدلالة، اشار استطلاع اجرته جامعة وينيبياك، منتصف الاسبوع الماضي، الى تفوق المرشحة كلينتون بنسبة 4% عن منافسها بين المدرجين في السجلات الانتخابية، ومن المرجح ان ترتفع النسبة عند الادلاء بالاصوات. النتائج المفرج عنها، اعلاميا في هذه الحالة، اغفلت تسجيل الانتماء الحزبي او المستقلين بين العينة البالغة 1،561 فرد، 43% منهم مسجلين لدى الحزب الديموقراطي. وعادة ما يتم اعتماد نسبة 30% من المسجلين في صفوف الحزب الديموقراطي. القراءة الاولية للنتائج تدل على خلل كبير في ترجيح كفة الناخبين الديموقراطيين في العينة، والتي لا تعكس النبض الشعبي العام بدقة.

الاستقطاب الحاد في الموسم الانتخابي الحالي يشير الى تحفيز قواعد الحزب الجمهوري والتي من المنتظر ان تشارك بالانتخابات باعداد كبيرة. في معسكر المرشحة كلينتون، بامكانها الاعتماد على الشرائح التقليدية الداعمة، السود والجيل الناشيء، التي أهلتها لتبوأ منزلة متقدمة. بيد انها قد لا تستطيع الحفاظ عليها نظرا لانشداد السود لجانب الرئيس اوباما في الدورة السابقة ومشاركتهم بكثافة عالية، اما الجيل الجديد فيعد اقل ميلا للتصويت لكلينتون.

تكتسب الجولة الانتخابية الراهنة اهمية استثنائية لناحية نظر الناخبين بجدية اكبر لضرورة دخول حزب ثالث او مستقل يكسر احتكار ثنائية الحزبين للمشهد السياسي. نسبة الحماس لصالح الحزب الثالث تخفو عادة قبيل الانتخابات العامة.

ترامب الكفة الراجحة

في الثنائية الراهنة، يميل اغلبية الرجال الناخبين لصالح ترامب، بنسبة 51% مقابل 35 لكلينتون؛ اما قطاع المرأة فيميل بنسبة اكبر لصالح مرشح الحزب الديموقراطي، 54% مقابل 30% لصالح الحزب الجمهوري. البيانات المتوفرة تشير الى ان ترامب ينال نسبة 86% من اصوات الناخبين الجمهوريين؛ اما كلينتون فقد نالت 90% من اصوات الديموقراطيين. شريحة الناخبين المستقلين تميل للانقسام بينهما بالتساوي تقريبا: 40% لصالح ترامب، مقابل 37% لصالح كلينتون.

النسبة المرتفعة للمستقلين المؤيدين لترامب، 40%، تشكل مصدر قلق لحملة كلينتون الانتخابية نظرا لان تلك الشريحة تتحكم بمفاصل الانتخابات الاميركية عادة.

عنصر الثقة بالمرشحين تميل لصالح ترامب بنسبة 44% تعتبره “صادقا وجدير بالثقة،” مقابل 39% لصالح كلينتون؛ ويعتبر ترامب “اشد الهاما” بين الناخبين بنسبة 48% مقابل 39% لصالح كلينتون.

يعتبر ترامب اكثر قدرة على ادارة الاقتصاد ومحاربة تنظيم الدولة الاسلامية من منافسته، بينما تنال كلينتون رضى اغلبية الناخبين للتعامل مع مسألة الهجرة وتدفق المهاجرين وكذلك لخبرتها في ادارة الازمات الداخلية.

الميول الانتخابية الراهنة لا تعد ثابتة يمكن البناء عليها. اذ لدينا متسع من الزمن لرؤية تقلبات واصطفافات جديدة داخل المعسكرين وبينهما، خاصة بعد اتضاح الصورة شبه النهائية لأن الصراع حقيقة يتمحور حول كسب شريحة الناخبين المستقلين.

الحالة الاقتصادية، في المشهد الاميركي، تعتبر عاملا اقوى في الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يعزز احتمالات ثبوت دونالد ترامب في مرتبة متقدمة. ويعتبر المراقبون ان تصريح هيلاري كلينتون الاخير بجهوزيتها للاعتماد على خبرة ومعالجة الشأن الاقتصادي لزوجها بيل كلينتون دليل ساطع على اولوية الملف الاقتصادي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى