مقالات مختارة

النظام الرئاسي في تركيا: سيناريوهات وعقبات! محمد نور الدين

 

ربما تدخل التطورات التي شهدتها تركيا الأحد والاثنين الماضيين موسوعة «غينيس». فليس من بلد ينعقد فيه مؤتمر لحزب وينتخب رئيس له ومن ثم يستقيل رئيس حكومته ويكلف رئيس الحزب الجديد تشكيلها ومن ثم تتألف، وكل ذلك خلال أقل من 40 ساعة.

انتخب «حزب العدالة والتنمية» بن علي يلديريم رئيساً له بعد ظهر الأحد، ومن ثم قدم احمد داود أوغلو استقالته من رئاسة الحكومة، بعد تنحيته عن رئاسة الحزب، وبعد ساعات قليلة يستدعي رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، يلديريم إلى القصر مساء ليكلفه تشكيل الحكومة.

تشكيلة الحكومة كانت جاهزة، ولكن يلديريم يعلن صباح الاثنين انه عندما ينتهي أردوغان من انشغالاته فإنه مستعد في أي لحظة أن يصعد إلى القصر ويقدم أعضاء حكومته. وكان الموعد صباح الثلاثاء الساعة العاشرة. حكومة جديدة ومرحلة جديدة.

انقضى الأمر وطويت صفحة أحمد داود أوغلو. وبدأت صفحة جديدة اسمها رجب طيب أردوغان.

ويكتب أحد الكتاب الأتراك متندراً أنه عندما وصل إلى القصر الجمهوري ليقدم لائحة أسماء وزراء حكومته الجديدة سأل يلديريم رئيس الجمهورية عما إذا كانت التشكيلة جاهزة، فأجابه أردوغان: «نعم»، فعاد يلديريم وسأل أردوغان:» وهل اسمي بينهم؟»!!!.

لم يكن الأمر مجرد نكتة، بل إن يلديريم نفسه كان ينعى بنفسه صفته القانونية ومهمته التي يفترض الدستور أن يتولاها.

في كلمته أمام نواب «حزب العدالة والتنمية» بعد تشكيل الحكومة خاطب يلديريم زملاءه قائلا: «رئيس جمهوريتنا زعيمنا. ونحن حزب رجب طيب أردوغان. لهذه الحركة زعيم، وهو على رأسنا. يجب أن نسير مع زعيمنا. وهذا هو واقع الأمر. ومهمتنا أن نحيل واقع الأمر هذا إلى واقع دستوري». ثم خاطب رئيس الجمهورية قائلا «سيدي رئيس الجمهورية. طريقك طريقنا. قضيتك قضيتنا. حبك حبنا».

كل ذلك من أجل الهدف النهائي وهو النظام الرئاسي، وهذا ما ورد حرفياً في البيان الوزاري للحكومة الجديدة: «سيكون من بين أولوياتنا وضع دستور جديد يكون فيه تغيير في نظام إدارة البلاد بما في ذلك إقامة نظام رئاسي».

انتهى الأمر. يكاد يجمع كل المحللين في تركيا على أنه لم يعد صائباً من الآن وصاعداً الإشارة إلى مصطلح «حزب العدالة والتنمية». ما جرى لا يحمل من قريب أو بعيد أي حيثية خاصة ومستقلة لـ «حزب العدالة والتنمية». أردوغان يأتي بداود أوغلو، وهو الذي أنهاه رغم انه خارج قبل ستة أشهر من انتصار انتخابي. وأردوغان يشير إلى بن علي يلديريم ليكون رئيساً للحزب والحكومة، ولولا الحياء لكانت أعلنت الحكومة الجديدة قبل مؤتمر الحزب أو أثناءه. لم يعد هناك، كما كررنا مراراً في الأشهر الأخيرة، شيء اسمه «العدالة والتنمية». هناك حزب رجب طيب أردوغان.

تركيا دخلت منذ الأحد الماضي مرحلة نظام الزعيم الأوحد، وليس الحزب سوى وعاء يزين الديكور الجديد. وقد اعترف «رئيس الحكومة» الجديد، أو بالأحرى «وزير الدولة»، بن علي يلديريم بذلك وفقا لما أشرنا أعلاه.

الانقلاب على داود أوغلو استكمل في تشكيل لجنة القرار القيادة في الحزب، عندما تغير نصف أعضاء اللجنة الخمسين بحيث تمت تصفية كل مؤيدي داود أوغلو، بل أيضاً كل من يرتاب أردوغان، ولو بواحد في المئة من ولائهم.

ولفت أن الرئيس السابق عبد الله غول أرسل رسالة إلى المؤتمر يحذر فيها من أن تركيا لم تعد تحتمل الوضع الذي هي فيه. أما نائب رئيس الحكومة السابق بولنت أرينتش، الذي مُنع من إلقاء كلمة قبل أيام في إحدى الجامعات، فقد أعلن السبب لعدم مشاركته في المؤتمر، قائلا إن أشياء سيئة تحدث ولا تثير الارتياح.

وفي تشكيلة الحكومة الجديدة فإن التغيير لم يكن كبيراً، ولكنه كان يحمل إشارتين أساسيتين. الأولى إبعاد يالتشين آقدوغان عن الحكومة والمشهد السياسي عموماً. والثاني إبعاد فولكان بوزكير عن وزارة الاتحاد الأوروبي.

في التغيير الأول فإن آقدوغان كان في قلب صورة اتفاق دولماباهتشه قبل سنة ونيف بين الحكومة و «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، والذي كان يؤمل أن يفتح كوة لحل المشكلة الكردية. لكن أردوغان حينها عرقل الاتفاق وذهب لاحقاً إلى حرب مفتوحة ضد الأكراد، بل أنكر معرفته بمثل هذا الاتفاق. إبعاد آقدوغان، الذي كان شخصية بارزة في الحزب والحكومة، مؤشر على أن الحرب ضد الأكراد ستستمر وبوتيرة أكبر من قبل و «حتى آخر إرهابي» بتعبير نائب رئيس الحزب محمد مؤذن أوغلو. شاربا آقدوغان، الذي أطلقهما بناء لطلب أردوغان مع آخرين في الأسبوعين الأخيرين، لم ينقذاه من هذه النهاية البائسة لينضم إلى النهايات البائسة لآخرين من عبد الله غول إلى بولنت أرينتش إلى داود اوغلو.

أما تغيير وزير شؤون الاتحاد الأوروبي فولكان بوزكير وتعيين عمر تشيليك بدلا منه فهذا مؤشر على أن المرحلة المقبلة مع الاتحاد الأوروبي ستكون متوترة. وقد أعطى أردوغان أولى الإشارات على ذلك بالقول إنه يمكن أن يلغي الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين. وكان الرد الأوروبي عليه من قبل رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون بالقول إن تركيا يمكن أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي في العام 3000، أي بعد مئة عام، في احد المواقف الأكثر قساوة على الأتراك منذ عقود.

من الواضح أن الهدف المركزي من الحكومة الجديدة هو العمل على تغيير الدستور، وأن انشغالات أردوغان ستكون داخلية، وهي إتمام عملية التحول الدستوري للنظام ليكون رئاسياً.

الخطة التي يتوقع أن يحاول أردوغان تطبيقها هي التالية:

تعديل الدستور في البرلمان بغالبية الثلثين (367 نائباً). وإن لم يكن فحصول الاقتراح على 330 نائباً على الأقل لتحويله إلى استفتاء شعبي. وكان احد قياديي «حزب العدالة والتنمية» قد أعلن قبل حوالي العشرين يوماً أن اقتراح التعديل سيقدم في حزيران المقبل إلى البرلمان. لكن بالأمس أعلن أحد نواب الحزب أن الخطوة ستتأجل إلى ما بعد انتهاء عطلة الصيف البرلمانية لعدم توافر شروط نجاحها في هذه الفترة.

في الحالتين «حزب العدالة والتنمية» لا يملك سوى 317 نائباً، وجميع الأحزاب الأخرى أعلنت معارضتها للنظام الرئاسي. حتى «حزب الحركة القومية»، الذي أيد مع أردوغان رفع الحصانة عن النواب الأكراد، قال إنه يؤيد أردوغان فقط في مهمة محاربة «الإرهاب» الكردي وليس في تعديل الدستور من أجل النظام الرئاسي.

وفي حال فشل الحالتين فإن أردوغان يخطط للذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة يطمح ليحصل فيها على غالبية الثلثين، أو على الأقل 330 نائباً.

رهان أردوغان في انتخابات مبكرة على أمرين: أولاً رفع الحصانة عن النواب الأكراد، وهو ما حصل فعلاً تمهيداً لمحاكمتهم وربما سجنهم وتفكيك بنية «حزب الشعوب الديموقراطي»، فيذهب هو أو بديله الحزبي ضعيفاً مرتبكاً إلى انتخابات نيابية يخسر فيها، فيستولي «حزب العدالة والتنمية» على النواب في المناطق الكردية وفق قانون الانتخاب الحالي.

والرهان ثانياً على المزيد من بث الفرقة داخل «حزب الحركة القومية» الذي يعاني من انقسامات، فيذهب هذا أيضاً ضعيفاً إلى الانتخابات فيخسر أيضاً، ليستولي «العدالة والتنمية» أيضاً على نوابه القوميين.

لا يمكن لأحد أن يتنبأ بما سيكون عليه هذا السيناريو، وما إذا كان قابلاً للتطبيق والنجاح أم لا. فوضع اليد من قبل أردوغان على الحزب وعلى الحكومة وعلى القضاء وعلى قيادات الشرطة وعلى الإعلام لا تعني بالضرورة أن الطريق أمام هذا السيناريو مفتوحة وميسرة.

الاعتراض الأول يأتي بالطبع من جانب الكتلة العلمانية، وقد كرر رئيس «حزب الشعب الجمهوري» المعارض كمال كيليتشدار أوغلو أكثر من مرة، أن إقامة نظام رئاسي لن يمر من دون إراقة دماء. ولا أحد يدري كيف ستكون آليات هذه المعارضة الدموية. لكن العلمانيين يدركون تماماً أن الخرطوشة الأخيرة لمعارضتهم يجب أن تنطلق قبل تغيير النظام وقبل فرض الواقع الجديد على الحياة السياسية، لأنه في حال تغيّر النظام يكون انتهى كل شيء وفات الأوان على أي حركة اعتراضية، ويصبح النظام الجديد شرعياً ودستورياً. لذا فإن الترقب هو عن الشكل الذي تتخذه الحركة الاعتراضية، وما إذا كانت ستكون عبارة عن تظاهرات وعصيان مدني أم إنها قد تتخذ شكلاً عنفياً.

ويدور نقاش أيضاً عن موقف المؤسسة العسكرية من كل ما يجري. المؤسسة العسكرية كانت تاريخياً هي الحامية الأولى للعلمانية، وهو ما فعلته ثلاث مرات عندما شعرت بوجود خطر على العلمانية.

اليوم تغير الكثير من وضع المؤسسة العسكرية. المواد القانونية والدستورية التي كانت تمنح المؤسسة شرعية التحرك السياسي ألغيت في استفتاء 12 أيلول 2010. كما أن القيادات العسكرية من الحرس القديم تمت تصفيتها بل سجنها في ما سمي بقضايا «ارغينيكون». والفريق الذي يحكم المؤسسة العسكرية اليوم من المقربين جدا لأردوغان.

ويرى البعض أن الجيش راض عن أردوغان في مسألتين: الأولى أن أردوغان نفسه وبعد مفاوضات مع الأكراد وزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بالذات (عبر رئيس الاستخبارات حاقان فيدان) عاد وانتهج سياسة قومية متشددة ضد الأكراد، وشن الحرب المستمرة عليهم منذ الصيف الماضي، والتي اشتدت في نهاية العام الماضي، بما ينسجم مع نظرة المؤسسة العسكرية إلى كيفية محاربة النزعة الانفصالية الكردية. كذلك فإن أردوغان كسب رضا العسكر عبر إطلاق سراح جميع الجنرالات المتهمين بقضية «ارغينيكون»، متهما خصمه فتح الله غولين بأنه كان وراء فتح الملف ضد العسكر. أما بشأن الخطاب الإسلامي لـ «حزب العدالة والتنمية»، فلا يبدو أن المؤسسة العسكرية متحسسة كثيرا من ذلك في ظل أولوية الحرب ضد الأكراد. أي باختصار إن العلاقة بين أردوغان والعسكر جيدة وفي انسجام، ولا يبدو في الأفق ما يفيد إلى احتمال حدوث انقلاب عسكري.

لكن الجميع يذكر أن كل الانقلابات العسكرية السابقة كانت بغطاء أخضر أميركي، والمؤسسة العسكرية التركية، من التدريب إلى السلاح إلى العقيدة الأطلسية، «أميركية» بامتياز. ولا شك أن العلاقات بين أردوغان وأوباما ليست على ما يرام والخلافات قائمة بين البلدين والفتور موجود بين أردوغان وأوباما. وقد برزت هنا مؤخراً مسألتان: الدور الذي يتولاه أكراد سوريا في الحرب في شمال سوريا، وخصوصاً مع بدء حملة تحرير الرقة بقوات عمودها الأساسي قوات الحماية الكردية وظهور المقاتلين الأكراد بالزي العسكري الأميركي، مع شعار «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي على أكتافهم، جنبا إلى جنب مع الجنود الأميركيين، الأمر الذي يثير حنق أنقرة الكبير ويشكل بلا شك «رسالة» شديدة اللهجة إلى أردوغان.

والثاني هو التحقيق المتواصل من جانب القضاء الأميركي، والذي يقوده القاضي بريت بهارارا، مع رجل الأعمال التركي رضا زراب (أو ضراب) الذي هرب إلى أميركا قبل أشهر واعتقلته السلطات القضائية الأميركية، والبعض قال إن الفرار كان بتواطؤ مع القضاء الأميركي. وقد نشر المدعي العام قرار الاتهام وفيه معلومات تفصيلية عن فضيحة الفساد الكبرى التي حصلت بين 17 و23 كانون الأول 2013، وتورط فيها أربعة وزراء وموظفين، وربما أفراد من عائلة أردوغان، والمبالغ التي أعطيت لهؤلاء وغيرهم وتقدر بعشرات الملايين من الدولارات. وبعدما كان القضاء التركي، بضغط من أردوغان، قد أقفل القضية من دون فتح تحقيق حولها، متخذاً إياها ذريعة لتصفية جماعة فتح الله غولين، فإن ما يكشفه القضاء الأميركي اليوم بالأرقام من قيمة الرشى التي قدمها زراب إلى المسؤولين ستشكل فضيحة مدوية تعري أردوغان والقضاء التركي، حيث الباب مفتوح على مفاجآت إضافية تتصل بأردوغان وعائلته. وهذه لا شك رسالة ثانية قوية أيضاً إلى أردوغان.

الأسئلة عما إذا كان العسكر سيتحرك، وفي أي ظروف، لا يمكن الجزم بشأنها وفقا للظروف الحالية فقط، وربطاً بالعلاقة بين أنقرة وواشنطن. إذ أنه في حال دخول البلاد في اضطرابات واسعة بين السلطة والمعارضة بشأن النظام الرئاسي ودفاعاً عما تبقى من علمانية ، فهل سيبقى العسكر متفرجا أم سيتدخل؟.

أيضاً ان البعض يرى أن الحديث عن احتمال قيام انقلاب عسكري لا يخدم سوى «حزب العدالة والتنمية» والظهور بأنه ضحية انقلاب على الشرعية وعلى الاستقرار. ويدعو هؤلاء إلى تعزيز خيارات المعارضة وتقويتها، وإسقاط «العدالة والتنمية» بالأساليب الديموقراطية وإنعاش خطاب المعارضة لتحظى بتأييد شعبي أكبر، وهذه أقصر الطرق للتخلص من أردوغان. أسئلة مفتوحة ليس من إجابات حاسمة بشأنها.

لكن لا شك أن إقامة نظام رئاسي، وإلغاء منصب رئيس الحكومة، وحصر كل السلطات برئيس الجمهورية وانتخابه بصفته الحزبية سيعني تغييراً جذرياً في بنية النظام السياسي. إذ لن يعود للمكونات الأقلوية في الجمهورية أي إمكانية للمشاركة في صنع القرار الذي يمارس الآن من خلال البرلمان. وسيجد الأكراد، على سبيل المثال، أنفسهم في جمهورية لا تحترمهم وتهمشهم، ما سيعزز النزعة إلى الانفصال وتفكيك الدولة المركزية. من جهة ثانية سوف يشتد الخناق على عنق الدولة العلمانية، إذ أن أكثر من ستين في المئة من الأتراك يصنفون على أنهم محافظون، والرئيس سيكون حتماً من هؤلاء حتى لو توحدت كل القوى المعارضة، لتتراجع أي فرصة للعلمانيين في أن تستلم الرئاسة ولتنتهي بذلك رسمياً جمهورية مصطفى كمال اتاتورك وتتأسس بدلا منها جمهورية رجب طيب أردوغان. وأردوغان لا يريد للسقف الزمني لهذا المسار أن يتأخر عن العام 2023، الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الدولة العثمانية.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى