مقالات مختارة

أيام اردوغان: الون بن دافيد

 

«كان شابا، لم يبلغ الخمسين، عندما انتخب في المرة الاولى لرئاسة الحكومة، كاريزماتي ولامع في الخطابات، يسيطر بشكل جيد على وسائل الإعلام. بدأ كديمقراطي وجاء من اجل العمل لمصلحة الشعب واقامة حكومة تحترم التقاليد والجمهور الغفير. وفاز في الانتخابات مرة تلو الاخرى، ومن انتصار إلى انتصار حيث بدأ يؤمن بأنه ولد من اجل السيطرة. عندما أقام حكومته الرابعة شعر بما يكفي من الثقة بالنفس من اجل شق طريق تخلد حكمه في الدولة. وتوجه لازالة العقبات التي تعترض طريقه.

«في البداية توجه إلى الجيش. كان واضحا أنه من اجل ضمان السلطة يجب أن يكون الجيش انضباطيا. في البداية أقال ضباط اختلفوا معه. وعندما وجد أن هذا غير رادع، بدأ بالصاق التهم بالجنرالات وارسالهم للسجن. هذا الامر نجح والجيش فهم الرسالة فوقف على يمينه. الآن لم يعد الجيش يشكل خطرا عليه.

«عندها توجه لوسائل الإعلام واصبح مؤثرا على الصحف التي تمدحه يوميا، لكنه لم يكتف بذلك. لم يكن باستطاعته تحمل الصحف التي تنتقده أو تؤيد احزاب اخرى.

«من اجل علاج الصحف كان يجب أن يغير اللغة وافراغ الكلام من مضمونه وادخال مضمون جديد. الصحافي الذي كان يتجرأ على انتقاده اصبح يسمى خائنا. وعندما بدأ الجمهور يعتاد على اللغة الجديدة التي تقول إن من ينتقد السلطة هو خائن، لم يعد مفاجئا تسمية بعض الصحافيين بكلمة مخربين. هكذا يتم تغيير الوعي. ورويدا رويدا يتم انتاج مقارنة بين من يقتل أبرياء وبين من يتجرأ على طرح مواقف اخرى.

«في المقابل، قام بعلاج الاكاديميا. هناك ايضا كانت آراء مختلفة كثيرة. محاضرون لم يسلموا بالموقف السائد، وجدوا أنفسهم مُقالين. واولئك الذين تجرأوا على الاحتجاج بصوت مرتفع حصلوا على لوائح اتهام وتم زجهم في السجن. النصف المتدين والمحافظ في الدولة أحب ذلك. خلال سنوات طويلة شعر هذا النصف بأن الجمهور العلماني يستخف به وبملابسه وبعاداته وبعصمته. والآن حان وقت دفع الثمن.

«النصف العلماني المتبقي صمت في اغلبيته. شاهد ما يحدث وتألم، لكنه تجاهل على أمل أن يأتي يوم ويستعيد فيه السلطة بالطريقة الديمقراطية. الآن العلمانيات هن اللواتي يتعرضن للملاحظات بسبب الملابس المكشوفة شيئا ما. والآن العلمانيون هم الذين يواجهون المدارس والكتب التعليمية التي تقوم بتقويم التاريخ والواقع.

«مثلما يتميز باستنفار الجمهور الغفير، فهو ايضا يعرف كيف يخيفهم، وتصوير تهديدات حقيقية ووهمية تحيط بهم وتحرضهم ضد الاقلية الكبيرة التي تعيش في الدولة، وتصوير الجميع على أنهم اعداء. كل ما سيكسبه المزيد من التأييد لدى الجمهور، هو شرعي. ليست له سياسة خارجية حقيقية. فقط سياسة داخلية. لا توجد له مشكلة في الدخول إلى مواجهة عسكرية أو سياسية مع دولة اخرى. إذا اعتقد أن هذا سيحقق له المزيد من الاصوات في صناديق الاقتراع.

«لقد فهم في الاسابيع الاخيرة أنه يجب أن يشكل لنفسه حكومة جديدة تساعده على كبح فرص استبداله بالطرق الديمقراطية. ودون تردد أقال الشخص المقرب منه من الحكومة، والذي كان شريكا مخلصا، لكن لسبب ما كان مصمما على أن القانون فوق السلطة. فعزله عن الكرسي وبدلا منه حل من سيساعده في تخليد حكمه.

«المشكلة بالنسبة له هي أنه فاز في جميع الانتخابات الاخيرة. ولكن لم يسبق له أن فاز بأغلبية حاسمة. ومن اجل ضمان بقائه في الحكم عليه تغيير القوانين حيث يحيد المعارضة ويضمن عدم قيام الاقلية ضده».

إنها صحافية زميلة قديمة ولها احترامها. وعندما انتهت من هذه الاقوال لم تفهم نظرة الدهشة في عيوني. جلسنا في مركز أنقرة، عاصمة تركيا، وسألت إلى أين يأخذ اردوغان الدولة. وعندما استمعت اليها وشعرت وكأنها أخذتني في رحلة إلى المستقبل.

أنا أحب تركيا وأحب الناس هناك والطبيعة الرائعة والطعام الجيد والدمج الكامل فيها بين الشرق والغرب. ولكن من زيارة إلى اخرى في السنوات الاخيرة يمكن ملاحظة التغيير: الجمهور يصبح متدينا أكثر فأكثر، والنظام أكثر قمعيا منه ديمقراطيا والسياسة الخارجية تعتمد على الاعتبارات السياسية وليس على المنطق والاستراتيجية الواضحة.

كان من المفروض أن تكون حليفتنا الطبيعية. ومثلنا ايضا هي دولة ليست عربية في منطقة كلها عرب، ديمقراطية توجهها للغرب وليس للشرق. ولكن مثل إيران فقد تعرضت إلى حادثة طرق سياسية.

في الشهر الماضي زرت معظم انحاء الدولة في محاولة لفهم توجهها. وكانت النتائج غير مشجعة: في محاولته ليكون سلطانا عصريا، يقوم اردوغان بالقضاء على حرية التعبير وحقوق المواطن في تركيا. سياسته الخارجية دفعته إلى مواجهة لم تنته بعد مع روسيا، وغياب ثقة الغرب به. اللعبة المزدوجة التي يلعبها مع داعش ـ هو عضو في التحالف ضد داعش، ولكن فعليا هو البوابة التي يمر منها من يريد التطوع للتنظيم ـ وهذا بدأ يجبي الثمن من بلاده: تركيا تعرضت في السنة الماضية لعمليات الإرهاب الاصعب في تاريخها. وهذه هي البداية.

اردوغان استغل ايضا العاصفة في الشرق الاوسط من اجل القيام بحرب هادئة ضد الاكراد في شرق الدولة. آلاف الاشخاص قتلوا في هذه الحرب ولا أحد يتحدث عن ذلك. وعادة يقوم الجيش التركي باجراء مناورات صيفية في القرى الكردية، لكن ما يحدث اليوم في شرق الدولة لا يشبه ما شاهدناه في الماضي. لقد زرت القرى والمدن التي يقوم الجيش التركي بتخريبها، والتقيت مع كثيرين من الاكراد الذين يشعرون أن اردوغان يدفعهم إلى التطرف. الشباب الاكراد ينضمون إلى الـ «بي.كي.كي»، الامر الذي يعني أن من سيفجرون انفسهم في مدن تركيا ليسوا من داعش فقط.

العزلة التي وضع نفسه فيها دفعته إلى البحث عن المصالحة مع اسرائيل. ونقاط الخلاف بقيت على حالها: طلبه رفع الحصار عن غزة، وطلب اسرائيل طرد قيادة حماس من اسطنبول. المصالحة ستتم كما يبدو عندما يتنازل الطرفان عن هذه المطالب. كلمة «مصالحة» كبيرة هنا. ومن الأدق الحديث عن وجود علاقات.

اعتقدت حتى الآونة الاخيرة أن اسرائيل لا يجب أن تسارع لاعادة العلاقة مع تركيا، لكن الخطر المتزايد في احتمال اندلاع مواجهة اخرى في غزة، يغير الصورة: مصر التي تكره حماس لا تريد التوسط بيننا وبين تركيا، وباستطاعة تركيا أن تكون مصدرا لتخفيف التوتر ومنع الحرب المؤلمة التي لا حاجة اليها في هذا الصيف.

معاريف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى