مقالات مختارة

حلب تنتكس.. وهدنة ثانية تدفن في خان طومان عبد الله سليمان علي

 

لم يشفع لمدينة حلب اتساعُ جرحها ولا غزارة الدماء التي سالت منها، فأُجهِضَت الهدنة الثانية فيها بعد ساعات فقط من إقرارها من قبل الطرفين الروسي والأميركي.

«جيش الفتح» الذي أعيدت هيكلته مؤخراً، وبالتحالف مع فصائل أخرى، قام بخرق الهدنة عن سابق إصرار وترصد، وعلى الهواء مباشرة، من خلال شنّه لهجوم واسع استهدف بلدة خان طومان الإستراتيجية في ريف حلب الجنوبي من عدة محاور. وكأنّ قدر خان طومان أن تكون مقبرة الهدن، وكأن قدر مدينة حلب أن تدفع فاتورة ذلك من أمنها وسلامها ودماء أبنائها.

وجاء الهجوم الذي انطلق، عصر أمس، محملاً برسائل مهمة وخطيرة موجهة إلى عدة أطراف قد تكون الولايات المتحدة أهمها. ومن هذه الرسائل أن منطق الهدنة بالنسبة للفصائل المسلحة قد تجاوزه الزمن، ولم يعد قابلاً للحياة في ربوع حلب، وبالتالي وحده صوت الرصاص سيكون مسموعاً من الآن فصاعداً، لا صوت المؤتمرات والمحادثات والاتفاقات الجانبية، ومنها أن التأثيرات الإقليمية على حلب فاقت مثيلاتها الدولية، وبالتالي فإن النزيف الحلبي سيستمر طالما لم يجر العمل على وقف أو إرضاء من يقف خلف تلك التأثيرات.

وأخيراً، وهو ما قد يشكل إحراجاً لواشنطن في مواجهة موسكو، أن الفصائل المسلحة التي تشير إليها الولايات المتحدة على أنها «منتقاة» أو «معتدلة» أو «متعاونة» قررت في غفلة عنها، أو بغير غفلة، أن تحتضن «جبهة النصرة» التنظيم الإرهابي الذي التزمت واشنطن، بموجب اتفاق الهدنة الذي عقدته مع روسيا ودخل حيز التنفيذ، فجر أمس، أن تعمل على عزله عن الفصائل الأخرى.

ومما لا شك فيه أن تحالف بعض الفصائل، مثل «فيلق الشام» و «حركة الزنكي» و «الجبهة الشامية»، مع «جيش الفتح» الذي تعد «جبهة النصرة» المستثناة من الهدنة ركنه الأساسي، ومع «جند الأقصى» و «الحزب التركستاني»، يشكل صفعة قوية للولايات المتحدة، ويظهرها غير قادرة على التحكم بالفصائل، أو التأثير على قرارها، حتى في موضوع بالغ الحساسية كموضوع الهدنة.

وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مارك تونر قد أشار في تصريحات عقب الإعلان عن اتفاق الهدنة مع روسيا، إلى مدى تعقيد الوضع الحلبي بسبب اختلاط الفصائل وتداخل أماكن انتشارها، وشدد على أنه يجب الفرز بين هذه الفصائل. وقال «نحن نعلم، وقد قلنا سابقاً أن الوضع في بعض المناطق معقد وغير مستقر. كانت هناك بعض المجموعات المختلطة، علينا التفريق بينها وتحديد من وإلى أي جانب تقف». وأضاف تونر أنه «سيكون على الحكومة (السورية) والمعارضة الالتزام بتنفيذها (الهدنة) وبشكل طوعي من أجل استمراريتها، فالأمر يعتمد عليهما في عدم مشاركتهما الأطراف المحلية التي لم تدخل عملية التوقيع».

وقد جاءت هذه التأكيدات الأميركية بعد كشف مسؤولين روس عن إخلال الولايات المتحدة بالتزاماتها في ظل الهدنة السابقة بخصوص العمل على عزل «جبهة النصرة»، والطلب من الفصائل الأخرى الابتعاد عن مناطق انتشارها.

ولا مجال هذه المرة للتخفي وراء التباس الوقائع للتعمية على المسؤولية عن خرق الهدنة، كما حصل في أيام القصف الدموي الذي طال مدينة حلب وسقط جراءه مئات الشهداء من المدنيين. لأن «جيش الفتح» والفصائل المتحالفة معه، مثل «جند الأقصى»، أقرت سلفاً بهذه المسؤولية وصفحاتها الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بالأدلة والبيانات والصور التي تؤكد بما لا لبس فيه أنها هي من بدأت الهجوم. وهذا ما يضع الولايات المتحدة في موقف يقتضي منها اتخاذ موقف حاسم تجاه هذا الانتهاك للهدنة، وإلا سيكون أي اتفاق جديد من دون أي مصداقية، في حال كان هناك فرصة لتجديد اتفاق الهدنة.

وأعلن البيت الأبيض أنه يرى تقدماً واضحاً نحو تجديد الهدنة حول حلب، لكنه قال إن مخاوفه مستمرة بشأن بعض الانتهاكات في البلاد. وقال المتحدث باسمه جوش إرنست «شهدنا انخفاضاً في تواتر وكثافة العنف في تلك المنطقة من البلاد، لكن ما زالت لدينا مخاوف بشأن بعض الانتهاكات المستمرة حتى في ذات المنطقة». وأضاف «هناك أيضاً مناطق أخرى في البلاد لم نشهد فيها التزاماً راسخاً بوقف الاقتتال الذي وافق عليه النظام والمعارضة».

ووصف الكرملين الهدنة في حلب بأنها هشة جداً، لكنه أكد أن الجانبين الروسي والأميركي مازالا يأملان في صمود نظام وقف إطلاق النار أمام الخروقات. وقال المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف «إننا نأمل دائماً بالأفضل، وهذا ما يسعى إليه الجانبان الروسي والأميركي على حد سواء. وفي الوقت نفسه، فإن مواقع الإرهابيين والمعارضين في حلب متداخلة لدرجة تجعل الوضع هشا جدا».

ميدانياً، بدأ الهجوم على خان طومان بريف حلب الجنوبي، حوالي الساعة الرابعة إلا قليلاً من عصر أمس، وشاركت فيه مجموعة من الفصائل، على رأسها «جبهة النصرة» و «جند الأقصى»، منطلقاً من محاور برنة والزيتان والراشدين والخالدية، وتضمن تنفيذ بعض العمليات الانتحارية بواسطة سيارات مفخخة. وهذه المرة الثالثة التي تتعرض فيها مدينة خان طومان لهجوم مماثل منذ عدة أسابيع فقط.

وكان الجيش السوري قد تمكن، في وقت سابق، من إجهاض هجوم كان مفترضاً أن يستهدف المدينة، وأوقع عشرات المهاجمين في كمين محكم بعد أن كشف خطة الهجوم. ويأتي الهجوم الجديد على خان طومان بعد أيام فقط من هجوم استهدف مدينة حلب عبر محور ضاحية الأسد، تمكن الجيش السوري كذلك من إفشاله وتنفيذ كمين آخر بمسلحين تابعين لـ «جيش المجاهدين» كانوا قد احتشدوا في أحد الأنفاق استعداداً لمهاجمة المدينة في أوسع عملية «إنغماسية»، كما قال أحد قادة «جيش المجاهدين» بعد ذلك، إلا أن الجيش السوري حاصر المحتشدين ضمن النفق وقتل العشرات منهم. وقد أعقب هذا الهجوم الفاشل، كما بات معروفاً، موجة دموية من القصف العنيف الذي طال جميع أحياء مدينة حلب، ولم يتوقف إلا فجر أمس تنفيذاً للهدنة الجديدة التي سرعان ما سقطت بدورها في خان طومان، من دون أن يكون واضحاً كيف سيكون تأثيرها المباشر على جبهات القتال داخل المدينة. علماً أن حي الراشدين، أحد محاور الهجوم على خان طومان، يعتبر جزءاً من المدينة.

وأعلنت «جبهة النصرة» أن الانتحاري الذي فجر نفسه بعربة مفخخة في بداية الهجوم، اسمه أبو جعفر الديري، سوري الجنسية. وقال الجيش السوري إنه تمكن من تفجير العربة قبل وصولها إلى هدفها. وجاء التفجير الانتحاري بعد وقت قصير من التمهيد الناري الذي قامت به مدفعية ودبابات الفصائل المشاركة في الهجوم. وأعقب ذلك اشتباكات عنيفة، سرعان ما تدخل فيها الطيران الحربي، الذي نفذ غارات كثيفة على أرتال المهاجمين وخطوط إمدادهم.

وبالرغم من أن الفصائل المهاجمة تمكنت من التقدم إلى بعض النقاط، حيث سيطرت على معمل البرغل في محيط خان طومان، واقتحمت أجزاء من قرية الخالدية، كما أعلنت عبر صفحاتها، إلا أنه من المبكر تقييم حصيلة الهجوم، لاسيما في ظل استمرار الاشتباكات، ومع سابقة أن هذه الفصائل تمكنت في هجمات سابقة من السيطرة على نفس هذه النقاط، لكنها اضطرت إلى الانسحاب منها لاحقاً. وقد قتل عدد كبير من المسلحين جراء استهدافات الجيش السوري لتجمعاتهم ومناطق تمركزهم، وأبرز القتلى أبو علاء طعوم القائد العسكري في «أحرار الشام» ومعد باريش وهو ناشط إعلامي يواكب عمليات «جبهة النصرة».

من جهة أخرى، سيطر تنظيم «داعش» على حقل الشاعر للغاز في بادية تدمر، فيما قتل 10 مدنيين، وأصيب حوالى 40، في تفجير سيارة وانتحاري استهدفا بلدة المخرم الفوقاني في محافظة حمص.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى