مقالات مختارة

الأوروبيون وتحرير «الفيزا» للأتراك: الجريمة الكبرى! بروكسل – وسيم ابراهيم

 

يقولون إنها اللفة الأخيرة من «الماراتون»، قبل أن يقبض السلطان رجب طيب أردوغان ثمن أكبر صفقة سياسة ينجزها مع الاتحاد الأوروبي في تاريخ تركيا المعاصر. تحرير تأشيرة الدخول لمواطني تركيا أمامه قرابة الشهرين قبل أن يصير أمراً واقعاً، برغم صرخات الاعتراض التي أطلقها البرلمان الأوروبي. النجاح الباهر للمتاجرة باللاجئين يؤتي ثماره، فبدل أن تهرول تركيا لتحقيق متطلبات تحرير التأشيرة، بات الأوروبيون يهرولون أمامها للترقيع، والقول إنها تقوم بما يلزم.

الإعلان عن الدخول في «اللفة الأخيرة» قامت به المفوضية الأوروبية أمس، مستعملة ذلك التعبير لمواجهة الأسئلة المشككة. قال نائب رئيسها فرانس تيمرمانس إنه بعد وصول «اللفة الأخيرة» بعد «ماراتون طويل»، لا يعود «من الحكمة» إثارة طروحات «ماذا لو لم ينجح الأمر». المفوضية تسير على أساس أن الأمر سيتم. قدمت اقتراحاً للدول الأوروبية تقرّ فيه بأن تركيا حققت «تقدماً كبيراً» للإيفاء بـ72 معياراً، أو شرطاً، للحصول على الإعفاء من التأشيرة. وفق تقييمها، المثير للجدل بين الأوروبيين أنفسهم، لم يبق سوى خمسة معايير على أنقرة تحقيقها لإتمام الاتفاق قبل نهاية حزيران المقبل.

بدا الأمر مسرحية سمجة لمن يعرفون عمل المفوضية، فهي تقوم عادةً بوظيفة «الفرامل» حينما يتعلق الأمر بما يعتبر عطاءات لدول تشكل طرفاً ثالثاً. تقف المفوضية في أحوال كهذه لتراقب وتمحّص وتنتقد، باعتبارها الحارس لتطبيق المعاهدات الأوروبية. لكنها في هذه الحالة، تقوم بعمل سيارة النجدة، بعدما دفعتها الدول المتأثرة بقضية اللاجئين إلى أن تكون بمثابة شاهد الزور على طريقة «هذه هي الحلول الممكنة ودبّروا لنا طريقة لجعلها نظامية».

تلك المفارقة لم تكن تحتاج كشفاً لإبرازها. حركت عبارات العجب من البرلمان الأوروبي الذي يلعب دوراً مؤثراً، فاتفاقية تحرير التأشيرة للأتراك لا تمر بلا مصادقته. حالما قدمت المفوضية تقييمها، أصدر رؤساء كتل البرلمان بياناً يشدد على أنه لن يساير عملية شهادة الزور تلك. صحيح أنه رحب بـ «الجهود الكبيرة» التي بذلتها أنقرة، لكنه أكد أنه لن يختصر العملية التشريعية اللازمة للمصادقة على الاتفاق، ولن يمضي إليها «حتى تقدم المفوضية ضماناً مكتوباً بأنه تم الوفاء بكل المعايير المطلوبة».

حتى النائب الألماني مانفريد ويبر، رئيس أكبر كتلة يمثلها «المسيحيون الديمقراطيون» (حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل)، لم يستطع إغماض عينه عما اعتبره «تمييعاً لقواعد تحرير التأشيرة». أعلن رفض أحزاب اليمين المحافظ لهذا النهج، معلقاً على توصية بروكسل الإيجابية بأنه «من الصعب أن نفهم لماذا تقترح المفوضية الآن تحرير الفيزا، برغم أن تركيا لا تستوفي جميع المعايير».

ما قاله ويبر يعتبر غزلاً قياساً بتعليقات سياسيين مخضرمين آخرين. رئيس الوزراء البلجيكي السابق غي فيرهوفستات، وهو رئيس كتلة الليبراليين في البرلمان الأوروبي، سارع للقول مخاطباً دول الاتحاد «لقد جعلنا أنفسنا مرتهنين للسلطان أردوغان، الأمرالذي لا يشكل مصلحة أوروبية على المدى الطويل، نحتاج التوقف عن الاعتماد على تركيا لحل أزمة اللاجئين». فيرهوفستات اعتبر أن فشل الأوروبيين في تبني سياسة مشتركة جعل أردوغان «يتحكم بالزعماء الأوروبيين للحصول على فدية، واللعب بنا ضد بعضنا».

مع ذلك، ليس واضحاً كيف ستترجم تلك المواقف إلى أفعال. ليست الحكومات وحدها تحتاج نجاح الاتفاق مع تركيا لوقف تدفقات اللاجئين، وهي الصفقة التي كان تحرير التأشيرة جزءاً منها. البرلمان الأوروبي أيضاً يشهد الخسارات التي تتعرض لها الأحزاب التقليدية، التي تملأ مقاعده، لمصلحة الصعود المتنامي لأحزاب اليمين المتطرف المعادي لكل ما له علاقة بالوحدة الأوروبية.

تلك الأحزاب جعلت أوروبا في حالة طوارئ لإيجاد أي حل، بأي ثمن، لقضية اللاجئين. أحزاب التطرّف اليميني تتقدم كالجرافة السياسية، رافعة أي عناوين شعبوية يمكنها الاستقطاب، على رأسها طبعاً التخويف من اللاجئين والمهاجرين والأجانب. مؤشرات صعودها بلغت الآن المستوى الأحمر، خصوصاً في النمسا التي فاز مرشح حزب «الحرية» اليميني المتطرف بالجولة الأولى للانتخابات الرئاسية فيها، ويتأهب الآن لخوض الجولة الثانية والفاصلة.

في هذه الأجواء، يبدو واضحاً أن آخر ما تفكر فيه الدول الأوروبية، ألمانيا على رأسها، هو التزام تركيا بمعايير احترام الحقوق والحريات. قبل شهر فقط، كانت الإعلانات الأوروبية تقول إن تركيا لم توفِ إلا بنصف المعايير، فقط بنحو 35 شرطاً من أصل 72 لازمة لتحرير التأشيرة. الضرورات السياسية يمكنها اجتراح العجائب، وركام الشروط المطلوبة تقلص بتفوق المتاجرة التركية إلى خمسة لا غير.

المفارقة أن أحد تلك الشروط غير المستوفاة هي الشرط الأول في القائمة الطويلة: إصدار جوازات سفر «بيومترية» (رقمية) تراعي المعايير الأمنية الأحدث حول وثائق السفر. الأتراك تم إعفاؤهم تقريباً من القيود الزمنية لهذا الشرط، فالتوصية الإيجابية صدرت برغم عدم وجود جواز بيومتري واحد في تركيا. فقط ابتداءً من حزيران سيبدأ طبع جوازات حديثة، وفق معايير المنظمة الدولية للطيران المدني، لكن تلك الكاملة المواصفات لن تطبع قبل تشرين الأول المقبل.

لم يُعتبر توفير الجوزات أحد الشروط الخمسة غير المستوفاة. تلك الشروط تشمل إصدار تشريعات وتعديل قوانين لتغطية عناوين فضفاضة: مكافحة فعالة للفساد، التعاون القضائي والجنائي مع الأوروبيين، توقيع اتفاقية تعاون عملي مع جهاز الشرطة الأوروبية «يوروبول»، حماية البيانات الشخصية، إضافة لتضييق نطاق قوانين مكافحة الإرهاب بما يمنع إساءة استخدامها.

المسألة الأخيرة تشكل بقعة سوداء فوق البياض المطلوب لإنجاز الاتفاق. تطبيق ذلك الشرط يعني التأكد من وجود محاكمات عادلة، ضمان حرية التعبير والتجمع، والأهم التوقف عن ملاحقة وسجن الصحافيين والأكاديميين بإلصاق تهم متصلة بالإرهاب. الأتراك يعدون بأنهم سيفعلون ذلك. التطبيق يرتبط أيضاً بالمصادقة التركية على مشروع قانون لتشكيل هيئة مستقلة تحقق في الانتهاكات التي ترتكبها أجهزة تطبيق القانون.

جعل تلك الاشتراطات الأخيرة واقعاً ملموساً يبدو أشبه بالتهويم لمن شهدوا حملة القمع والتضييق التي قامت بها حكومة أدروغان ضد معارضيها. البرلمانيون الأوروبيون المعترضون أشاروا إلى وجود 1800 صحافي يتعرض للملاحقة القضائية. لم يلحظ الأوروبيون ذلك، بما فيه أن تركيا تحتل الموقع 152 في قائمة حرية الصحافة، وهي تشمل 180 دولة أصدرتها منظمة «مراسلون بلا حدود».

حينما اضطرت المفوضية لتبرير موقفها من تلك الوقائع، فعلت كمن يحاول إزالة لطخة فيجعلها أكثر وضوحاً. اعترف تيمرانس أن أوضاع الحريات «من سيئ إلى أسوأ» في تركيا، لكنه اعتبر أن ذلك بحد ذاته سبب للتقارب والشراكة «لعكس ذلك الاتجاه»، محتجاً على المعترضين بالقول إن «الصراخ اللائم وإدارة الظهر لن ينفعا».

تمام الاتفاق ينتظر شهر حزيران الفاصل، وحينها سيتضح تماماً إن كانت أبواب أوروبا ستشرّع أمام 79 مليون تركي. لكنه اتفاق تاريخي سيكتب أيضاً باعتباره تم كسباق مسافات قصيرة وليس كماراتون أبداً، بعدما التفت أنقرة عليه فوق جسر المتاجرة الفاضحة لآلام اللاجئين. الآن بات حرس الحدود التركي يلاحق القوارب المطاطية ملوحاً بالسكاكين، بعدما كان يغض النظر مشجعاً عبورهم إلى اليونان.

لكن اللطخة الأكبر لا تخص فقط أنقرة، بل أوروبا المتورطة فيها تماماً لوقف التدفقات بأي ثمن كان. يراقب الأوروبيون بصمت مطبق إغلاق الحدود التركية في وجه السوريين الهاربين من الحرب، برغم إدراكهم التام أن ذلك مخالف للقوانين الدولية قبل أن يكون جريمة أخلاقية. بدلاً من ذلك، يشيدون بقرار أنقرة إعادة التأشيرة بالنسبة للسوريين، صانعين جنة جديدة لشبكات التهريب التي يزعمون محاربتها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى