مقالات مختارة

تركيا والصراع الأذري ـ الأرمني المتجدّد محمد نور الدين

 

فاجأ تجدد الاشتباكات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا في منطقة ناغورنو قره باخ جميع المراقبين، إلا الذين كانوا يقفون وراء هذه الاشتباكات أو حرّضوا عليها.

إذ ليس من سبب أو تبرير مقنع، سواء للجانب الأذري أو الأرمني، لانفجار الوضع عسكرياً. فلم يكن أي تطور استثنائي أو يستدعي رداً من هذا الطرف أو ذاك بالطريقة الواسعة التي حصلت، وسقوط هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى من الطرفين. كما لو أن كل طرف كان ينتظر هذه اللحظة لكي يضغط على الزناد و «يفشّ خلقه» بالآخر.

طبعا هناك من الخلافات والحساسيات التي تفجّر حرباً، بل حروباً بين الجانبين. والواقع الميداني والجغرافي والقانوني والسياسي يحمل الكثير من التعقيد والتداخل.

لكن يمكن أن نسجل أن الوجود الأرمني في منطقة القوقاز، كما الأناضول، قديم جداً، ويعود إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، بينما الوجود الأذري، وبمعنى أدق الوجود التركي هناك ومن ثم في الأناضول، بالكاد يعود إلى القرن العاشر للميلاد، مع قدوم الأقوام التركية من الصين ومنغوليا إلى آسيا الوسطى فالأناضول وبوابتها القوقاز، وفاتحتها معركة ملاذكرد ضد السلاجقة في العام 1070 للميلاد.

والملاحظة الثانية أن الأرمن أقاموا ممالكهم في القوقاز والأناضول، وكانوا أول دولة في العالم تعتنق المسيحية في القرن الرابع للميلاد، بينما اعتنق الأتراك الإسلام في نهاية القرن العاشر للميلاد.

لم يكن إقامة جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا بالحدود التقريبية في العام 1918، ومن ثم انضمامهما إلى الاتحاد السوفياتي بعدها بوقت قصير (1921) سوى بداية للمشكلات التي عانتا منها لاحقاً. وكان أبرز بذورها ضم مقاطعة ناغورنو قره باغ إلى أذربيجان في العام 1923 بصفة حكم ذاتي، لكنها تابعة إدارياً وسياسياً لباكو. حتى إذا انهار الاتحاد السوفياتي كان أرمن ناغورنو قره باغ أمام خطوة الانفصال، أولاً عن أذربيجان وثانياً الاستقلال بعد معارك طاحنة بين الأذريين والاستقلاليين الأرمن. بل احتل الأرمن أراضي تابعة لأذربيجان، وليست خاضعة لناغورنو قره باغ.

الستاتيكو الذي أسفرت عنه المعارك، حتى العام 1994، لا يزال قائماً. وتخلله تحالفات بين تركيا وأذربيجان من جهة وتقاطع مصالح بين أرمينيا وكل من روسيا وإيران.

وبعدما كانت تركيا في عهد طورغوت اوزال في العام 1990 لا تعارض دخول الدبابات السوفياتية إلى باكو لقمع انفصال أذربيجان عن موسكو، لكون الأذريين، بتعبير دخل التاريخ لأوزال، «وماذا يهمنا؟ إنهم شيعة بينما نحن سنّة»، دخلت تركيا في تحالف مثلث مع أذربيجان، بعد دخولها الفلك الأميركي ـ الإسرائيلي، وجورجيا بدعم أميركي في إطار الصراع الإقليمي ـ الدولي مع كل من إيران وروسيا. وكان أبرز مظاهر هذا التحالف الثلاثي هو مد خط أنابيب باكو ـ جيهان عبر جورجيا من أجل تهميش دور خط نوفوراسيسك الروسي الممتد إلى أوروبا لنقل الغاز الطبيعي.

لقد تحولت أذربيجان إلى توأم تركيا، وذهب مضرب مَثَل، كلام المسؤولين الأتراك وآخرهم رجب طيب أردوغان إن تركيا وأذربيجان هما شعب واحد في بلدين. وقد راهن الأتراك كثيراً على النزعات القومية للأذريين لتخريب الوضع الداخلي في إيران انطلاقاً من كون ثلثي الأذريين في المنطقة موجودون في إيران. ولقد لعب الرئيس السابق لأذربيجان أبو الفضل ألتشي بك (1992-1993) بخطابه العرقي التحريضي دوراً رئيسياً في هذا الإطار قبل أن تنتقل الرئاسة إلى حيدر علييف.

مع ذلك هذا لا يبرر تفجير الوضع العسكري في ناغورنو قره باغ في هذه اللحظة، خصوصاً أن هناك بعض المتغيرات المهمة في العلاقات السياسية لأذربيجان مع كل من روسيا وإيران. ففي عيد «النوروز» الماضي قبل 20 يوماً فقط كان الرئيس الأذري إلهام علييف يزور إيران ويوقع اتفاقات اقتصادية. كما أن العلاقات الروسية مع باكو جيدة بل إن الروس يصدرون أسلحة إلى أذربيجان، بحيث أن التحالف الأذري ـ التركي ـ الجورجي، ببعده الأذري، لم يعد كما كان في السابق حاداً إلى هذه الدرجة في العلاقة مع إيران وروسيا رغم النفوذ الاستخباري والأمني القوي في أذربيجان.

يمكن من خلال رصد ردود الفعل على الاشتباكات المتجددة التأشير إلى من له مصلحة بتحريك هذا الصراع، ولو بشكل محدود.

لا شك أن إيران المنشغلة في سوريا، وروسيا المنشغلة في سوريا وأوكرانيا، ليس من مصلحتهما فتح جبهة انشغال جديدة تشتت جهودهما. لذا بادرا، وعلى أعلى مستوى، إلى الاتصال منذ اللحظة الأولى لتجدد الاشتباكات بكل من أرمينيا وأذربيجان لوقف النار وإنهاء التوتر.

أما تركيا فلم تظهر هذه الرغبة، وأعلنت أنها تقف بالكامل و«حتى النهاية» مع باكو. بل أضاف أردوغان بالقول إن الثلاثة ملايين أرمني في أرمينيا وناغورنو قره باغ يشكلون تهديدا للأمن القومي التركي.

ينقل أردوغان بهذا الكلام المشكلة إلى دائرة من الشكوك بدور تركي بما جرى في ناغورنو قره باغ. فتركيا أولاً تريد فتح أبواب تثير «نقزة» خصومها، لا سيما روسيا وإيران، لتخفيف الضغوط عليها في سوريا. ولم يعد أمراً غير معروف من الجميع، وهو انه لو سقطت سوريا بيد الإرهاب لكانت محطته الثانية روسيا عبر خاصرتها الرخوة في القوقاز، ودائما بإسناد مركزي من القاعدة الخلفية تركيا. ومن جهة ثانية، فإن نقل أردوغان الموقف من ناغورنو قره باغ ليكون موقفاً من الشعب الأرمني نفسه، واعتباره تهديداً لتركيا، يهدف إلى شد العصب القومي التركي من أجل استمالة الجيش إلى جانبه، مع ظهور شائعات عن انقلاب عسكري محتمل، نفاه الجيش، ضده. وبتصعيد الخطاب القومي، سواء ضد الأرمن أو الأكراد، أيضا يسهل على أردوغان أيضا تمرير تعديل الدستور لإنشاء نظام رئاسي، وهو الهدف الرئيسي لأردوغان في هذه المرحلة، عبر استمالة أصوات العديد من نواب «الحركة القومية» للموافقة على تعديل الدستور، وإحالة التعديل على استفتاء شعبي.

إن «الفوبيا» الكردية التي تتحكم بالعقلية السياسية التركية لا تختلف عن «فوبيا» مماثلة، بل أقدم بكثير منها، تتحكم بهذا العقل وهي «الفوبيا»، الأرمنية، وهي التي دفعت أردوغان سابقا للخجل مما نسب إليه انه من أصل أرمني، واعتبر هذه تهمة قبيحة جداً. وقال حرفيا «يقولون إنني من أصل جورجي. هذا أمر قبيح. ولكن الأقبح منه أن يقال إنني من أصل أرمني».

ومع انه كما قلنا ليس من مبررات ميدانية لهذا التوتر المستجد فإن البعض يعيد انفجار الوضع إلى عوامل داخلية أذرية، نابعة من تكاثر فضائح الفساد، كما الاعتراضات على قمع الحريات، ما يدفع بإلهام علييف إلى سياسة حرف الأنظار، وإعادة تعويم حضوره الداخلي، عبر ورقة شد العصب القومي باتجاه ناغورنو قره باغ وأرمينيا.

والسؤال المبرر أيضاً، أين أميركا من كل هذا التوتر المستجد بين أذربيجان وأرمينيا؟.

في الواقع إن الولايات المتحدة لا تنزعج من أي خضة تزعج روسيا وإيران. ولكن من المستبعد أن تكون واشنطن تسعى إلى تفجير صراع إقليمي واسع في القوقاز، وضد أرمينيا تحديداً. ذلك أن باكو هي في النهاية حليفة واشنطن الإستراتيجية. ولكن واشنطن وقفت إلى جانب ناغورنو قره باغ وإلى جانب القضية الأرمنية، وللأرمن لوبي قوي في الولايات المتحدة بحيث لن يفيد أي مرشح ديموقراطي للرئاسة الأميركية في نهاية هذا العام أن يجلب عداوة اللوبي الأرمني القوي ويخسر أصواته والقوى التي معه. فضلاً عن أن المسألة الأرمنية تحظى في الغرب بمكانة وجدانية، انطلاقاً من اعتبارات حضارية وثقافية ودينية، لا تدفعه إلى وضع الأرمن في موضع حرج وصعب. وإذا كانت واشنطن لا تعارض «زكزكة» إيران وروسيا، فإن تركيا المستفيدة من هزّ العصا لروسيا وإيران غير قادرة في الوقت ذاته على جرّ أذربيجان إلى صراع واسع ومفتوح مع أرمينيا، نظراً لأن هذا يتعدى قدرتها المنفردة على ذلك خارج التغطية الأميركية غير المتوفرة إلا بحدود افتراضية أيضاً. وعلى هذا يمكن توقع أن يهدأ التوتر بين الطرفين الأذري والأرمني، أو في أسوأ الأحوال بقاؤه محدوداً.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى