مقالات مختارة

طريق البلقان أمام محطة جديدة: اللاجئون في قبضة المافيا! بروكسل – وسيم ابراهيم

 

ليست أقل من لائحة مستلزمات التجهيز لحربٍ على اللاجئين، تلك التي وصلت قبل أيام إلى بريد وزارة داخلية تسع دول أوروبية على طريق البلقان. آلاف اللاجئين مشردون، ينامون في صقيع عراء الصدّ الحدودي، المنظمات الدولية تناشد إرسال معونات لإيوائهم، فيما مقدونيا ترسل قائمة مستلزمات المواجهة معهم لشركائها. معارضو ذلك يعدون، أو يتوعدون، تلك السياسة بفشل قريب، فيما الضليعون بطريق البلقان يقولون إن سيل اللجوء بات أمام احتمال يقيني: اختراق ألبانيا، ما يدشنها بوابةً جديدة، لفتح الاحتمالات مجدداً إلى غرب أوروبا.

القائمة التي أرسلتها مقدونيا جاءت ضمن رسالة من 12 صفحة، تمكنت اليونان الغاضبة من اصطيادها وتسريبها للصحافة. تطلب الحكومة المقدونية تجهيزات هندسية وآلات لبناء تحصينات حدودية، بما فيها إقامة «جدار أمني» بطول 300 كيلومتر. لائحة المطالب، كما جاء في الوثيقة التي نشرها موقع «يوروأكتف»، تورد أيضاً الحاجة لـ «معدات السيطرة على الحشود»، ما يعني الاستعداد لمواجهة واسعة مع آلاف العالقين على حدودها المغلقة، خصوصاً أن سيناريو الصدام حدث قبل أيام.

قائمة المعدات القمعية اللازمة تشمل «قنابل الصدمة»، تلك المحشوة بالخرطوش المطاطي، قنابل مسيلة للدموع، بنادق مطاطية، معدات وقدرات تقنية للجيش المقدوني المنخرط في العملية الحدودية، إضافةً إلى المصاريف اللازمة لتشغيل مزيد من الموظفين والمركبات.

الدول المرسل إليها هي المجموعة التي تقودها النمسا، بعدما أطلقت عملها خلال قمة «فيينا»، أواخر الشهر الماضي. عشر دول تنسق الآن لسياسة رصّ صفوفها عازمة على قطع شريان البلقان. النمسا رئيسة أركان هذه المواجهة، رأس الحربة مقدونيا، ثم دول الحصار المطبق على امتداد الجغرافيا الممكنة أمام تدفقات اللاجئين: ألبانيا، البوسنة، بلغاريا، كوسوفو، كرواتيا، الجبل الأسود (مونتينيغرو)، صربيا، سلوفينيا.

تلك الطريق مغلقة الآن بقسوة صادمة في مقدونيا، فيما الحكومات الأوروبية تتفرج على المزيد من آلاف المشردين بلا حتى خيم، تحت رحمة السماء، وفي صقيع ليل الحقول النائية.

لم ترسل دول المواجهة مساعدات. إضافةً لدعم حملة الصد والقمع المقدونية، أرسلت أربع دول من التكتل الأوروبي ضباط شرطة وفق تفاهم صارم: أختام شرطة تلك الدول توضع على وثيقة كل من يسمح له بالمرور، مزاجياً بين الحين والآخر، وبالقطارة، لتكون إلى جانب الختم المقدوني علامة دامغة لا يمكن لغير حامليها أن يكونوا «عابرين شرعيين».

سياسة الصدّ ناجحة إلى الآن، وفق أهداف واضعيها. انحباس تدفقات اللاجئين تتوقع له اليونان أن يتجاوز مئة ألف شخص، خلال الأسابيع المقبلة. التكدسات جعلت صفوف المحتشدين تنتظر لساعات، سواء لالتقاط وجبة طعام أو لمحاولة يائسة للعبور حينما تريد مقدونيا تمرير بضع عشرات.

معرفة مصير هذا الانحباس الكبير ليست بحاجة لإعمال الخيال. لن تسلح الدول الأوروبية من «أصدقاء الشعب السوري» اللاجئين بمضادات السدود الحدودية. لذا ستكون الصدامات والاحتجاجات واردة، لكن مع احتمال آخر يفتح فصلاً جديداً هو الاندفاع باتجاه ألبانيا، باعتبارها الممكن الوحيد أمام سيل الهاربين من الحروب والمآسي.

حتى الآن، يفضل المسؤولون الأوروبيون التكتّم رسمياً على هذا السيناريو، رغم أن غبار حدوثه بدأ يتصاعد في الصحافة اليونانية والإيطالية والألبانية. هناك في بروكسل، فقط الهمس حول ذلك، ينقله ديبلوماسيون ومسؤولون، مع قلق من التصريح حول المحطة الألبانية كي لا يكون ذلك بمثابة الترويج لها.

مع ذلك، حينما سألت «السفير» المفوض الأوروبي للهجرة ديمتريس أفرامابوليس، أقرّ بأن افتعال الشعور بالمفاجأة سيكون تمثيلاً رديئاً من الحكومات الأوروبية حينما ترى انفتاح البوابة الألبانية. قال إنه «لا يجب أن نتفاجأ إذا رأينا بوابات جديدة باتجاه أوروبا، لهذا تعاوننا مهم للغاية داخل الاتحاد الأوروبي ومع الدول المجاورة»، مشدداً على أن «المهربين عازمون جداً، إنهم يستكشفون طرقاً جديدة» لاستثمار مصيبة اللاجئين مع إغلاق البوابة المقدونية.

هكذا يصير عبوس الحكومة الألبانية مجرد «معارضة لفظية»، مع إعلان رئيسها ايدي راما «إننا لن نفتح الحدود للاجئين». الانكار وتكرار تلك الرسالة سببه واضح، فألبانيا من دول سياسة المواجهة بقيادة النمسا. لكن الواقع الجغرافي لا تغيره الضرورة السياسية.

وزيرة الاندماج الألبانية كلادا جوشا قالت أواخر شباط الماضي إن اتجاه التدفقات إلى بلادها قدر لا مفر منه: «يبدو أنه سيتم تغيير المسار (لسيل اللاجئين) نتيجة الفوضى التي تعمّ في نقطة إيدوميني» الحدودية المغلقة بين اليونان ومقدونيا.

ألبانيا تبقى المنفذ الوحيد باتجاه أوروبا الغربية. ليس ذلك فقط، بل هي منفذ مترامي الأطراف تتيحه 212 كيلومترا تشكل حدودها مع اليونان. معظم تلك الحدود سلاسل جبلية وعرة، فيها عدد لا يحصى من الممرات السالكة، ما يجعل وصول ألبانيا ممكناً بسهولة من دون المرور على المنافذ الحدودية الثلاثة.

هذه الوقائع يوردها العارفون بحقيقة تلك الجغرافيا. يقولون إن تحول ألبانيا إلى بوابة رئيسية، ضمن الظروف الحالية، بات حتمياً ومسألة وقت. أحدهم، البروفسور اليوناني إيفانجيلوس فيناتيس، المتخصص في دراسات اللاجئين والهجرة. خلال مقال نشره في صحيفة «كاثامريني» اليونانية، اعتبر إنه مع إغلاق المنفذ المقدوني «ينبغي النظر لتوجه اللاجئين المحاصرين في اليونان إلى الحدود مع ألبانيا على أنه قادم على وجه اليقين، هذا ما سيحصل خلال الأيام والأسابيع المقبلة مع حلول الربيع».

منع ذلك «سلمياً» برأي فيناتيس سيكون محاولات «عابثة» من ألبانيا، فكما يقول: «لا يمكن رفع جدران في المناطق الوعرة، كما أن المسارات الموازية هناك لا يمكن السيطرة عليها لأنها هائلة العدد وعشوائية ومنتشرة على نطاق واسع». حصول المتوقع سيعني وفق تقييمه أن «محاولات النمسا ستكون عبثية»، لصدّ التدفقات ببناء الجدران على العتبة الأوروبية، عازياً ذلك إلى أن المشكلة ستنفلش «في كل البلقان».

رغم معارضتها، لكن الحكومة الألبانية أوعزت ببناء مخيمين يتسعان لعشرة آلاف لاجئ. فتح سيل اللجوء للبوابة الألبانية سيتيح احتمالات «منفلشة» أمامه بالفعل. مبدئياً، يمكن من ألبانيا العودة والانعطاف إلى مقدونيا، لكن الأخيرة يبدو أنها تتحسب لذلك، فهي تطلب تجهيزات لبناء سياج بطول 300 كيلومتر، فيما حدودها مع اليونان أقل من 200 كيلومتر.

لكن من ألبانيا يمكن العبور أيضاً إلى كوسوفو أو «الجبل الأسود». منهما يمكن إما التوجه إلى صربيا للعودة إلى المسار المعروف، أو تفادي حواجزه بفتح مسار جديد وأقصر عبر البوسنة إلى كرواتيا، ثم سلوفينيا والنمسا.

لكن القلق من البوابة الألبانية يهبّ من جهة أخرى، فالصحافة الايطالية امتلأت بالمقالات والتقارير التي تحذر من وضع إيطاليا مجدداً في الواجهة. إضافة للطرق البرية، هناك المسار البحري الممكن أمام التدفقات، فألبانيا لديها ساحل طوله يقارب 500 كيلومتر مقابل إيطاليا. يفصل بين الدولتين ممر البحر الأدرياتيكي، المتفرّع عن المتوسط، ما يجعل المسافة بين الساحل الألباني والايطالي نحو 70 كيلومترا فقط. تتمة هذه العبارة تتولاها الصحافة الايطالية، فهي مسافة يمكن قطعها بالقوارب المطاطية، كما رددت تحذيرات مسؤولين وخبراء.

بعض التقارير خلصت إلى أن التدفقات بدأت تدلف فعلاً إلى ألبانيا، وأن قوارب مطاطية عبرت منها إلى إيطاليا. الشرطة الألبانية نفت ذلك، مراراً، مشيرة إلى أنها عثرت بضع مرات على قوارب مطاطية على الساحل. سيناريو كهذا يؤرق روما، فحكومتها لم تصدق كيف تحوّلت كثافة سيل اللجوء إلى طريق البلقان بعدما كانت الجزر الايطالية عنوانه الأبرز.

هناك مليون لاجئ تقريباً عبروا إلى أوروبا العام الماضي، نحو 150 ألفاً منهم وصلوا ايطاليا. المخاوف تزداد لأسباب عدة، فالمسار البحري بين ألبانيا وإيطاليا كان مكرساً لتجارة المخدرات، قبل أن تخوض الدولتان حرباً شرسة لمحاولة إغلاقه أمام شبكات التهريب. الحكومتان ليستا ممسوستين بالسينما، فعلى أرض الواقع أيضاً لا تنافس إجرامية المافيا الايطالية سوى المافيا الالبانية. تلك الشبكات تعرف أدق تفاصيل المسارات الجبلية بين اليونان وألبانيا، ويمكن فهم التوجّس الرسمي حين الاستماع إلى وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) تعلن أخيراً أن «أرباح تهريب اللاجئين تنافس أرباح تجارة المخدرات».

التقديرات بفشل سياسة الإغلاق الحدودي، بقيادة النمسا، بثتها أيضاً الحكومة اليونانية، المعارضة لها بشدة، لكنها لا تعلن ذلك على سبيل التحليل. مجدداً لا حاجة لإعمال الخيال. المسألة برأي البروفسور فيناتيس تمثل «حاجة» لحكومة أثينا. يخلص إلى أن «الممر الألباني يمكن أن يعطي اليونان بعض الوقت للتعامل مع التدفق إلى تركيا، كذلك للتخفيف عن الحدود مع مقدونيا، ولتوفير الفرصة الأخيرة للاتحاد الأوروبي لإثبات أنه اتحاد أصدقاء وليس اتحاد أعداء».

إنها مجدداً «أزمة أوروبا» مع نفسها قبل اللاجئين وبعدهم. القمة الطارئة مع تركيا لم ينتظر منها أحد أن تأتي بالمعجزات. عناوين الحل طرحت مراراً في السابق، لتبقى العبرة في التنفيذ المماطل، المرتهن لمساوماته المتشعبة. تركيا تعرف أنها تمسك بورقة ضغط على أوروبا، موجعة فعلاً وغير مسبوقة، لتحقيق مكاسب آنية وجيوسياسية، فيما التكتل الأوروبي محاصر بانقساماته والمخاوف من اشتداد الأحزاب اليمينية المتطرفة.

من كل ذلك، تنبثق سياسة مشتركة أكيدة، من تركيا إلى أوروبا، عنوانها المتاجرة باللاجئين. نفاق الأوروبيين جعلهم يباركون، ويحيون، إعادة أنقرة العمل بالتأشيرة للسوريين. من كان يعبر الحدود التركية بعشرات الدولارات، بات الآن يدفع أضعافاً للمهربين. بالطريقة ذاتها، يضع الأوروبيون الآن اللاجئين في قبضة المهربين الألبان، مثلما جعلت تحصيناتهم الحدودية مهربين آخرين يحصلون على أرباح خيالية. حتى الآن، لم تفتح الدول الأوروبية أي إمكانية لوصولها إلا… تهريباً!

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى