مقالات مختارة

التحالف التركي ـ السعودي: الدوافع والتوقعات: محمد نور الدين

تطوّران بارزان كان لتركيا علاقة بهما في الأيام الأخيرة. الأول الإعلان عن تأسيس مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي بينها والسعودية ، والثاني إعدام الشيخ نمر باقر النمر وردّة الفعل التركية عليه. والحدثان متداخلان ومرتبطان بالتوجّهات التركية تجاه منطقة الشرق الأوسط.

في مجلس التعاون الاستراتيجي

انتهى العام 2015 على زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الرياض ولقائه الملك السعودي سلمان. وقابل السعوديون الضيف بحفاوة كبيرة، منها فتح باب الكعبة أمام أردوغان. وكانت المفاجأة النسبية إعلان وزيري خارجية البلدين عن إقامة مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي، يشمل كل المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.

الإعلان عن تأسيس المجلس من الرياض يُوحي بأن السعودية اقترحت وتركيا وافقت. كذلك فإن مجيء الخطوة بعد سلسلة مبادرات انطلقت من السعودية، مثل التحالف العربي والتحالف العسكري الإسلامي، يرجّح أن الفكرة جاءت من الرياض.

ما الذي يدعو الطرفين إلى تأسيس مثل هذا المجلس؟

بالنسبة للسعودية فإنها تواجه مأزقاً في سياساتها الإقليمية. فحربها في اليمن لم تحقق النتائج المرجوة، رغم أنها تقترب من نهاية عامها الأول. والتحالف العربي، كما القوة العربية المشتركة، لم يجد مشاركة فعالة إلا من بعض دول الخليج، مثل الإمارات والبحرين، فيما لم تشارك فيه دول كانت تعوّل عليها السعودية مثل مصر وباكستان. أما التحالف الإسلامي، الذي أعلنت عنه الرياض مؤخراً، فليس من ردود فعل إيجابية عليه من الدول الوازنة، ولا تعرف مساراته، وما إذا كان سينطلق في الأساس.

وفي سوريا لا تبدو التطورات الميدانية، ولا سيما بعد مقتل زعيم «جيش الإسلام» زهران علوش تسير لمصلحة المعارضة المدعومة من الرياض. وفي المجال السياسي لم تجد مقررات مؤتمر فيينا، ولا قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254، ترحيباً من السعودية، حيث إن نقطة الخلاف الأساسية حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد لم يشر إليها.

لذا بدت الحاجة للسعودية أن تمضي إلى خطوة أكثر تقدماً بتوثيق علاقاتها مع تركيا تحديداً، المعنية بقوة بالشأن السوري والطرف الأكثر قدرة على إعطاء الرياض شيئاً ما. لكن أيضاً فإن السعودية لا يقتصر خلافها مع دول إقليمية، مثل سوريا وإيران، والعراق إلى حدّ كبير، بل إنها في تنافس ضمن العائلة الخليجية، ولا سيما مع قطر. وقد أعلنت أنقرة والدوحة عن إقامة قاعدة عسكرية تركية في قطر، وكذلك توقيع اتفاقيات لتزويد تركيا بالغاز القطري. والسعودية ربما رأت أن مدّ اليد لتركيا يقلل من احتكار قطر لتركيا ويقرّب أنقرة إلى الرياض أكثر.

أما من جهة تركيا، فإنها تمرّ في فترة لا تُحسد عليها لجهة العزلة شبه الشاملة التي تعانيها في المحيط الإقليمي. ففي سوريا تواجه المجموعات، التي تدعمها تركيا، تراجعاً ميدانياً، ولا سيما في ريف اللاذقية المحاذي للحدود التركية. وانفجر الخلاف مع العراق بسبب معسكر بعشيقة وإرسال تركيا قوة مقاتلة إليه، ومطالبة بغداد أنقرة بسحب قواتها. والتوتر تصاعد مع إيران بسبب العراق، فضلاً عن سوريا. والتوتر عاد مع أرمينيا بسبب تجدد المعارك بين أرمينيا وأذربيجان. كذلك جاءت قرارات فيينا ومجلس الأمن غير منسجمة مع الأهداف التركية، خصوصاً بالنسبة لمستقبل الأسد.

إضافة إلى ذلك جاء التوتر مع موسكو، قبل إسقاط الطائرة الروسية وبعده، ليحشر تركيا أمنياً وعسكرياً واقتصادياً في سوريا وفي الداخل التركي.

لذا فإن تركيا تحتاج إلى نافذة تكسر عبرها العزلة الإقليمية من جهة والعقوبات الاقتصادية الروسية من جهة أخرى. وهي الدوافع نفسها التي جعلت أردوغان ينفتح على إسرائيل، ويقول إن إسرائيل تمثل حاجة لتركيا ومصالحها.

إذاً، فإن فكرة المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي تخدم تركيا والسعودية في هذه اللحظة من الصعوبات والتحديات التي يواجهانها، لكن لكلٍ من زاويته.

حدود التعاون

عندما تمر مفردة «مجلس التعاون الاستراتيجي الأعلى» يقفز إلى الذهن فوراً عدد كبير من المحاولات السابقة التي تحمل الاسم نفسه، والتي أقيمت بين أكثر من دولة.

فمن قبل هناك مجلس تعاون استراتيجي تأسس بين تركيا والعراق، وبين تركيا وسوريا، وبين تركيا وروسيا. كذلك كان تأسس مجلس تعاون استراتيجي بين تركيا ومجلس التعاون الخليجي في العام 2008. وكل هذه المجالس انهارت، ولا أحد يسمع بها الآن. كما الحال مع ما سُمّي بالتحالف العربي والتحالف الإسلامي.

لذلك فإنه قياساً للتجارب السابقة هذه، فإن الرهان على نجاح المجلس الجديد بين تركيا والسعودية ليس في محله. لكن الأسباب الموضوعية هي التي تحكم على هذه النظرة إيجاباً أو سلباً.

كل طرف من طرفي مجلس التعاون الاستراتيجي له أهدافه ومشكلاته، منها الخاص به ومنها المشترك. فإذا انطلقنا من الأهداف المشتركة، فإن الموقف من الوضع في سوريا وتشديد الضغط على النظام السوري يأتي في طليعة هذه الأهداف. ويمكن أن يمضي الطرفان إلى أقصى حد في التعاون لمزيد من دعم المعارضة. مع ذلك فإن القدرة التركية على التحرّك الميداني في سوريا، بعد التوتر التركي ـ الروسي الأخير، تقلّصت ولا تخدم، بالتالي أحد أهم أهداف تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي، فضلاً عن أن التعاون التركي ـ السعودي في سوريا قائم وبقوة، بمجلس تعاون استراتيجي أو من دونه.

لا شك في أن الأولويات تختلف لدى كل من أنقرة والرياض، فالسعودية تضع اليوم نصب أعينها كهدف استراتيجي إضعاف إيران والشيعة في المنطقة عموماً، وجاء إعدام الشيخ نمر باقر النمر في هذا السياق. ومع أن أردوغان يتمنى أن ينهض يوماً ويجد إيران الشيعية قد ابتلعها بحر قزوين ولم تعد جارة لتركيا (وله في إيران والشيعة مطوّلات ومعلّقات مذهبية مشهودة)، غير أن التمنيات شيء والحقائق والضرورات الجغرافية والمصالح تفرض عليه، كما فرضت على أسلافه على مدى عقود بل قرون، مقاربة مرنة مع الجار الشيعي اللدود.

فإذا كانت السعودية ترغب في أن ترى تركيا إلى جانبها في معركة مفتوحة مع إيران، فهذا من سابع المستحيلات، رغم الخطاب المذهبي الذي لا ينزل من على لسان أردوغان ورئيس حكومته أحمد داود أوغلو. وما يلجم تركيا الذهاب إلى النهاية في العداء والمواجهة مع إيران أكثر من سبب:

١ ـ إيران هي النافذة الجغرافية الأكثر أماناً الوحيدة الآن أمام تركيا بعد التوتر مع سوريا والعراق وروسيا وأرمينيا. وإغلاق هذه النافذة تعني الانتحار الكامل لتركيا.

٢ ـ تستمر تركيا في حاجتها إلى إيران، خصوصاً في ظل الأزمة مع روسيا، إن لجهة النفط أو الغاز المستورد من إيران. كما أن طهران يمكن أن تشكل بديلاً جزئياً للغاز الروسي، ولا تريد أنقرة أن تخسر هذا الاحتمال في حال تدهور العلاقة أكثر مع موسكو.

٣ ـ إن توتير تركيا لعلاقاتها مع إيران، عبر الانضمام لحلف كامل مع السعودية، لا يفيد الاستقرار في تركيا مع تصاعد المواجهة مع «حزب العمال الكردستاني» المتواجد في تركيا على الحدود مع سوريا والعراق وإيران، وقدرة الأطراف الإقليمية على التأثير في الورقة الكردية.

٤ ـ لا ينقص تركيا المزيد من الاحتقانات المذهبية في داخلها بين السنّة والعلويين، في حال دخولها في مواجهة لها طابع مذهبي مع إيران.

لذا فإن تركيا غير مستعدّة أن تذهب مع السعودية إلى النهاية في العداء لإيران. وأكبر دليل على ذلك أن أنقرة لم تقف إلى جانب الرياض في مسألة إعدام النمر، ونائب رئيس الحكومة نعمان قورتولموش قال علناً، بعد انتهاء جلسة الحكومة الاثنين الماضي، إن بلاده ضد الإعدامات لأسباب سياسية. بل اتخذت تركيا موقفاً محايداً من التوتر بين إيران والسعودية عارضة التوسط بينهما، رغم أن أردوغان لم يمرّ على عودته من «الزيارة الاستراتيجية» إلى السعودية ثلاثة أيام فقط.

وحتى تعليقات أردوغان، الأربعاء الماضي، على التوتر بين إيران والسعودية، والقول إن الإعدامات شأن داخلي سعودي كانت مواربة، ولا تثير ارتياح السعودية؛ وهذا يسقط من يد الرياض أهم هدف لها (إيران إضافة إلى سوريا) من فكرة إنشاء مجلس التعاون الاستراتيجي مع تركيا. مع الإشارة إلى أن أردوغان يناقض نفسه، عندما يقول إن الإعدام شأن داخلي سعودي، بينما دعا هو نفسه العالم إلى التحرك ضد قرارات الإعدام في مصر ضد جماعة «الإخوان المسلمين»، ولم ير فيها شأناً داخلياً مصرياً. علماً أن مصر تراجعت عن أحكام الإعدام هذه نتيجة الضغط الدولي، بينما السعودية لم تتراجع ونفذت أحكام الإعدام.

وإلى هذه العوامل المتصلة مباشرة بتركيا، فإن الحلف التركي ـ السعودي المفترَض يفتقد أيضاً أسباب نجاحه الإقليمية. فمصر على سبيل المثال لن تقبل بأن يعود الدور التركي عبر هذا الحلف إلى المنطقة. وستكون السعودية بين خيارَي كسب تركيا وخسارة مصر، أو كسب مصر وبالتالي التخلي عن الحلف مع تركيا.

كذلك، فإنه إذا كان من ضمن أهداف السعودية موازنة التقارب التركي ـ القطري، فإن أنقرة لن تذهب مع الرياض إلى النهاية، بحيث تخسر تركيا قطر حليفتها الاستراتيجية الثابتة في معظم الملفات الإقليمية، بخلاف السعودية.

لن نسعى هنا إلى إدراج الحساسيات التاريخية بين الإسلام التركي والوهابية، ولا بين النزعة السعودية والنزعة العثمانية، ولا التنافس على زعامة العالم الإسلامي السني كخلفيات قائمة وبقوة كابحة لتعاون استراتيجي فعلي بين تركيا والسعودية. إذ يكفي ما عرضناه من وقائع وعوامل راهنة للقول إن التعاون ممكن بين تركيا والسعودية في بعض الملفات الظرفية، مثل سوريا، وزيادة التعاون الاقتصادي الثنائي لا أكثر. هذا لا يعني التخلي عن مجلس التعاون الاستراتيجي أو فرطه أو إلغاءه، بل تقييد حركته ما يعطل الأهداف التي أنشئ من أجلها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى