مقالات مختارة

مماحكات سعودية ـ تركية على هامش اتفاق الزبداني ـ الفوعة عبد الله سليمان علي

 

طغى البعد الإقليمي على ملف الزبداني ـ الفوعة وكفريا، منذ تبنّي «أحرار الشام»، بتوجيه تركي، معادلة الربط بين المنطقتين. لكن هذا البعد الإقليمي لا يقتصر فقط على بروز الدورين التركي والإيراني في عملية التفاوض، بل يتعداه إلى جانب آخر يتعلق بتناقض مواقف كل من أنقرة والرياض حول هذا الملف، وسعي كل منهما إلى التأثير عليه بما يحقق مصلحة كل منهما.

واستراتيجياً، تُعتبر معركة الزبداني من أقوى الصفعات التي تتلقاها الاستخبارات التركية منذ نجاحها في دعم «جيش الفتح»، وتمكينه من فرض سيطرته على كامل محافظة إدلب، باستثناء بلدتي الفوعة وكفريا، من دون أن يعني ذلك أن معركة الزبداني جاءت في إطار الرد على سقوط إدلب.

ومرد هذه الصفعة القوية، إلى أن مدينة الزبداني تُعتبر آخر معقل من معاقل «أحرار الشام» في محيط العاصمة دمشق، وبالتالي فإن خسارتها من قبل الحركة، التي لم يعد تحالفها أو تبعيتها للاستخبارات التركية يحتاج إلى دليل بعد أن أصبحت العلاقة بينهما أكثر من علنية، منذ أن وضعت الحركة نفسها تحت تصرف السلطات التركية لتمرير مشروع المنطقة «الآمنة»، تعني ببساطة أن الاستخبارات التركية فقدت إمكانية التأثير في أي معركة محتملة تستهدف دمشق في مرحلة ما.

وذلك على عكس الاستخبارات السعودية، التي تدعم «جيش الإسلام» بزعامة زهران علوش، لأن سقوط الزبداني من يد «أحرار الشام» من شأنه أن يتوّج الرياض كأبرز لاعب إقليمي يملك أوراق قوة في محيط العاصمة السياسية لسوريا. وهذا ما يفسر عدم مسارعة «جيش الإسلام» إلى «نصرة الزبداني» طوال الأسابيع الأولى لانطلاق معركتها، وانتظاره وقتاً طويلاً، كانت المدينة قد سقطت خلاله عسكرياً، قبل أن يشنّ معركة «الله الغالب» التي لم يعُد لها في الحقيقة أي تأثير على مجريات معركة الزبداني، وأصبحت آثارها مقتصرة على تحقيق بعض المصالح الوقتية لعلوش و «جيشه».

وجاء تسويف علوش بالرغم من كل مناشدات «أحرار الشام» التي كانت توسلت فيها إلى جميع الفصائل بضرورة فتح الجبهات من أجل التخفيف عن الزبداني، لكن هذه المناشدات لم تلق آذاناً صاغية، لا من علوش ولا من غيره. وحتى عندما أعلنت «أحرار الشام» فشل الهدنة الأولى، ووصفت المعركة بأنها لمواجهة «التغيير الديموغرافي» الذي تحاول إيران فرضه، فإن ذلك لم يدفع علوش إلى إبداء أي رد فعل، بل هو لم يمانع في الكذب علناً عندما احتجّ على مناشدةٍ أصدرها الشيخ أحمد الصياصنة، بأنه غير قادر على فتح جبهة بسبب الحصار المفروض عليه في الغوطة، وهو ما ثبت عدم صحته، لأنه بعد ذلك بأسبوعين أعلن عن معركة «الله الغالب»، الأمر الذي يؤكد أنه لم يكن راغباً في التخفيف عن «الأحرار»، ولا في منع سقوط الزبداني، استجابة منه لدواعي التوازنات الإقليمية التي يعمل تحت غطائها.

وبعد أن فقدت «أحرار الشام» أي أمل في نصرتها من قبل الفصائل الأخرى، وعلى رأسها «جيش الإسلام»، عمدت بتوجيه من الاستخبارات التركية إلى ابتداع معادلة «الفوعة وكفريا مقابل الزبداني»، والتي أدّت إلى عقد سلسلة من الهدن، آخرها اتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى تمديده إلى السبت المقبل. وفي هذا السياق نفى الناشط ع. ن. المقرب من «أحرار الشام»، والذي رفض الكشف عن كامل اسمه، صحة القول بوجود توجيهات تركية وراء فرض معادلة «الزبداني والفوعة»، لكنه جزم بأن فرض مثل هذه المعادلة لم يكن ليمرّ من دون موافقة تركية، بسبب ما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات على العلاقة بين طهران وأنقرة.

وبالرغم من عدم وجود إمكانية لإثبات وجود ترابط بين فشل الهدنتين السابقتين وبين مساعٍ سعودية أدت إلى إفشالهما، إلا أن العديد من الشكوك بدأت تظهر على السطح بخصوص ذلك، لاسيما أن الطرف المتهم بإفشال الهدنة الثانية، وهو «فيلق الشام»، كان الفصيل الوحيد الذي أصدر بياناً أعرب فيه عن استعداده لإرسال ألف مسلح لدعم الجيش السعودي في حربه ضد اليمن.

وفي الواقع لم تعُد ثمة حاجة للبحث عن الطرف المسؤول عن إفشال الهدنتين السابقتين، لأن بصمة الاستخبارات السعودية في محاولة إفشال الاتفاق الأخير كانت واضحة. وتجلّت هذه البصمة في تسريب مقطع فيديو لزهران علوش يهاجم فيه «أحرار الشام» ويتهمها صراحة بعدم اقتحام الفوعة وكفريا بسبب خضوعها للتوجيهات التركية.

وجاء هذا التسريب في وقت حساس للغاية، حيث سبق هجوم «الأحرار» وحلفائها على الفوعة وكفريا، والذي انتهى فجأة بالإعلان عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بعد ساعات فقط، الأمر الذي يثبت أن الغاية من ورائه كانت إحراج «أحرار الشام» ودفعها إلى نفي تهمة التبعية للاستخبارات التركية عن نفسها، من خلال مواصلة المعركة واقتحام البلدتين المحاصرتين. ونظراً لسرية التسجيل وخطورته وحساسية التوقيت الذي تمّ تسريبه فيه، فقد انحصرت الشكوك بأن يكون مَن يقف وراءه هو «جيش الإسلام» نفسه، أو جهاز استخبارات مطلع على كواليسه، ولا يوجد بهذه الصفة سوى الاستخبارات السعودية.

وهنا يبرز تساؤل رئيسي، هو لماذا فشلت الهدنتان السابقتان، فيما تبدو الثالثة وكأنها على وشك الصمود والتحول إلى هدنة طويلة الأمد؟

يمكن تفسير ذلك، بأن الاستخبارات التركية، الداعمة لـ «أحرار الشام»، لم تكن خلال الهدنتين السابقتين قد يئست تماماً من إمكانية قلب موازين القوى في الزبداني، ومنع سقوط المدينة، وبالتالي المحافظة على موطأ قدم لها في محيط العاصمة، لذلك لم تمانع في إجهاض محاولتَي الهدنة. ولكن بعد فشل المحاولات الأخيرة لإحداث خرق ميداني، وأهمها محاولة فك الحصار عن الزبداني من خلال معركة الجبل الشرقي، ومحاولة التسلل عبر مجاري الصرف الصحي في سهل المدينة، بلغ اليأس مبلغه، وثبت على نحو قاطع عدم إمكانية إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء في معركة الزبداني. وهو ما دفع تركيا إلى التمسك بالهدنة الأخيرة ومنع انهيارها، بالرغم من الرفض العلني لها من قبل بعض الفصائل الفاعلة، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» و «كتيبة الأوزبك»، متوخية من ذلك تحقيق بعض المكاسب السياسية بعد أن خسرت نفوذها العسكري الأقرب إلى العاصمة. ويتمثل هذا المكسب السياسي في تقديم حليفتها «حركة أحرار الشام» كطرف قابل للتفاوض معه، وبالتالي تأهيل الحركة لتصبح أحد أركان أي عملية سياسية يمكن أن تؤدي إلى إطلاقها الجهود المبذولة من أطراف عدة، على رأسها روسيا والمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. وهو ما يتيح لأنقرة تعويض جزء من الخسارة التي مُنيت بها عسكرياً بفقدان الزبداني، إلى جانب محاولة ردّ الصاع صاعين إلى «جيش الإسلام» الذي بات يتخبّط في معركته الأخيرة، ويناشد الفصائل الأخرى من أجل فتح الجبهات للتخفيف عنه.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى