مقالات مختارة

بين اللجوء والهجرة وعقدة المسيحيين عامر نعيم الياس

 

                

ضاع إعلاميو العرب كعادتهم في توصيف ما يجري على الأرض في ملف الهروب من الدول التي تعاني حمّى «الربيع العربي»، سواء من وسائل الإعلام المحسوبة على المحور المقاوم، أو من وسائل الإعلام المحسوبة على التيار الأميركي في المنطقة. قناة «الجزيرة» القطرية وحدها ألغَت، بأمرٍ من مدير التحرير فيها صلاح نجم، استخدام مصطلح «مهاجر» لمصلحة «لاجئ» مراعاةً «للرعب الذي يلاقيه من يخرج من بلاده في البحر المتوسط»، وفقاً لما نقلته صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية في أحد تقاريرها. هنا، وعلى رغم صحّة القرار ومنطقيته من الناحية المتعلّقة بالتعاريف الناظمة والحالات التي يعيشها الأشخاص الذين يريدون الانتقال من بلدٍ إلى آخر، إلا أن القرار الذي اتخذته قناة «الجزيرة»، التي تعدّ جامعةً في طوابق مبناها كلّ من ينادي بحكم الشرع من الإعلاميين العرب، له أهداف تتعلّق في جزءٍ منها بالإدارة الإعلامية لمعركة ما يسمى «الربيع العربي»، وتحضير الأجيال المهاجرة إلى أوروبا لعدم نسيان ما جرى لها، والتأسيس لاستمرار أرضية عدم الاندماج تمهيداً لنشر مبادئ التعصّب أينما دعت الحاجة إلى ذلك.

وبالعودة إلى توصيف ما يجري على الأرض وفي البحر من مآسٍ يومية بحق العوائل المغادرة عبر المتوسط إلى أوروبا، وهل نحن في مواجهة مأساة مهاجرين أو لاجئين، تجدر العودة إلى التفسير القانوني لمعنى المصطلحين السابقين، والتغيّر الذي ألمِّ بمجتمع الدول المتلقية للسكان الجدد.

الهجرة والمجتمع الأوروبي:

المهاجر هو «الشخص الذي يشارك بالهجرة أي انتقال الناس من بلدٍ إلى آخر للإقامة فيه»، وتعتبر الأمم المتحدة الشخص مهاجراً إذا غيّر مكان إقامته لمدة سنة.

تعتبر أسباب الهجرة اقتصادية في غالبية الأحيان طمعاً بتحسين مستوى المعيشة، فيما يهاجر البعض لأسباب دراسية وعلمية بحتة تتعلق بالتحصيل العلمي ومواكبة آخر ما توصل إليه العلم في الدول التي تعيش رفاهاً اقتصادياً وتعنى بالبحث العلمي وتوفير البنى التحتية له، وتلتقي المجتمعات الغربية مع المهاجرين وتسهّل اندماجهم عند نقطة «المساهمة بحياة أفضل وإضفاء حيوية وتنوّع على البلاد» وفق فرانسوا جيمني المتخصّص في شؤون الهجرة. هنا تحضر الأمثلة الكندية والأسترالية والألمانية والسويدية لتفسير جزء ممّا سبق، حيث الدافع الخفي وراء مصطلح إضفاء حيوية على البلاد هو معالجة مشاكل النمو السكاني المنخفض وشيخوخة المجتمع، فضلاً عن ملء الفراغ الجغرافي في بعض الدول الأميركية والأوروبية. لكن ما يجري الآن وانتشار العنصرية في الغرب ردّاً على التطرّف في الشرق وفي الدول الإسلامية التي تصدّر أكبر نسبة مهاجرين إلى «بلاد الكفار» تحديداً، جعل الأوروبيين «يرتبكون في التمييز بين الفئات المتعددة للمهاجرين والذين يأتون من عدة دول. ففي فرنسا يعتقد الشعب أن هؤلاء الأشخاص يأتون للعيش في بلادهم والاستفادة من الميزات التي يقدّمها النظام الاجتماعي، متناسين أن بعضهم يهربون من صراع» وفق ما نقلته «لوفيغارو» عن جيمني.

اللجوء:

تعرّف اتفاقية جنيف عام 1951 اللاجئ بأنه «الشخص الذي يخشى الاضطهاد لأسباب دينية أو عرقية أو اجتماعية أو لانتمائه إلى فئة معينة، أو لآرائه السياسية ويختار التواجد خارج بلده الذي لا يستطيع توفير الحماية له». لكن في ضوء المد الذي تشهده أوروبا والمآسي التي يعيشها مجتمعنا في المنطقة وتحديداً المثال السوري في السنوات الأخيرة، يصعب التمييز بين المهاجر واللاجئ. فهل يمكن القول إن طالب اللجوء ليس مهاجراً اقتصادياً، وعليه فإنه لا يجوز تسميته بالمهاجر؟ ماذا عن عدوى اللجوء التي تجددت في الآونة الأخيرة في سورية والتي ارتفعت نسبها إلى حدودٍ عليا تماثل ما حصل في البلاد في السنتين الأوليين من الحرب عليها. هل يمكن تسمية ما جرى بأنه لجوء اقتصادي خدمي معيشي أم أنه هجرة؟

في حالات الحروب كالتي نعيشها، وفي ضوء انحسار القدرة على الاختيار والرغبة فقط في الهروب من الجحيم الذي أفرزه الربيع الأميركي، وإغراق البلاد بالفصائل الإسلامية المتطرفة، يمكن القول إن ما يجري هو هروب إلى المجهول عبر ركوب موجة اللجوء عند الغالبية التي تندفع اليوم خارج البلاد، هو منفى ليس اختيارياً، ومحاولات عند البعض المتعلّم المثقف الواعي للعبور إلى الغرب ومحاولة التأسيس لشيء ما على قاعد استغلال ما يوفّره اللجوء للسوري حصراً، فيما لا ينفي ما سبق انتقال البعض إلى الخارج بالعدوى طمعاً بمساعدات «الكامب» المجانية واستغلال المزايا الاجتماعية التي يقدّمها الغرب للأسر المهاجرة. هذا ما يفسّر في بعضٍ منه ازدياد نسب الولادات في صفوف كافة النازحين السوريين واللاجئين في معظم دول الجوار، وهؤلاء تحديداً يتعاملون مع الخروج من البلاد على مبدأ المهاجرين الأوائل من الجزيرة العربية إلى سورية العظيمة بلد الرفاه الاقتصادي والحضارة والتجارة والانفتاح قبل ألف وأربعمئة سنة.

الموروث الطائفي:

لا يريد من يقطن هذه البلاد أن يخرج من عقدة الأقلية والأكثرية والظالم والمظلوم لتبرير بطشه بالآخر. ومع تعميم نموذج الأقلية على قياس مسيحيي المنطقة والسكان الأصليين لها، بقيت عقدة ارتباط المسيحيين بأوروبا والغرب حاضرةً في صوغ الرؤية حتى المعتدلة منها عند الطبقة المثقفة ومعظم ما يحسب نفسه على النخبة الثقافية والإعلامية في بلادنا ومنها سورية. فنجد الإعلام، حتى ذلك المحسوب على محور المقاومة، يتحدث عن «تفضيل المسيحيين في اللجوء والهجرة» مع أن العكس صحيح. فيكفي إحصاء اللاجئين والنازحين والمهاجرين السوريين إلى كل دول العالم دون استثناء، وقياسهم بعدد السكان كي تُدحَض هذه الفكرة التي صارت عقدةً ملازمةً لمن تدّعي أنها نخبة كونها حاضرة في لاوعيها على ما يبدو. بل أكثر من ذلك، يكفي النظر إلى موافقات الزيارة بقصد السياحة التي منحتها السفارة الأميركية في بيروت مثلاً خلال السنوات الأربع من عمر الأزمة في سورية لنرى إن كان هناك تفضيل للمسيحيين عن غيرهم، أم أن الأمر معكوسٌ تماماً، فالعقاب موجّه ضد البيئة الحاضنة للدولة في سورية لا العكس.

المهاجر يترك البلاد باختياره من دون أن يهرب من أي شيء يهدد حياته. أما ما يحصل في دولنا، فما هو إلا مأساة يختلط فيها من يريد العيش في الخارج تفضيلاً المعونات على وطنه، وبين من يريد لأطفاله بيئةً صحية بعيدةً عن قاطعي الرؤوس، وبين من يبحث عن مستقبلٍ تحت ستارة اللجوء الذي أصبح عنواناً للحالة السورية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى