مقالات مختارة

عباس ابراهيم: لواء الأمن السياسي مارلين خليفة

 

جدّد الأمن العام اللبناني شبابه عشية عيد تأسيسه السبعين (في 27 الجاري) بإنجاز أمنيّ خارج سياق الخمول اللبناني، يتمثّل بإلقاء القبض على الإرهابي أحمد الأسير في عمليّة سرية دامت منذ اختفاء «الشيخ الفار».

يتمّ هذا الإنجاز على يديّ مدير عام الأمن العام اللواء عبّاس ابراهيم الذي أمر بتعقّب الأسير منذ ما يقارب العامين فحاصره بحرفية أمنية وبسرية تامّة، راصدا له مجموعة أمنية خصصت للشيخ الفارّ وقتا طويلا وتطويقا محكما لمن دفعته ثقته الفائضة بالنفس الى الاستمرار في نشاطه الأمني المعتاد.

في بلدته كوثريّة السيّاد، يتابع اللواء ابراهيم بهدوئه المعتاد تفاصيل العملية الأمنية الناجحة. تسأله «السفير» ماذا لو بقي الأسير طليقاً؟ يجيب مبتسما: «لكنّا أثبتنا بأن الدولة غير قادرة على إحقاق الحق، لكنّ العكس هو الذي حصل: الدولة قادرة على تحقيق العدالة لمواطنيها.. أعرف أن ثمة انطباعاً آخر لدى المواطنين، لكنّ نحن في الأمن العام لا نفرّط بحق مواطن، فكيف بدمه؟». وعمّا هو أصعب: إلقاء القبض على إرهابي أم إقناع السياسيين بالوساطة التي يقوم فيها بالنسبة الى التمديد للضباط؟ يقول: «لا شيء صعباً ما دام الهدف واحدا وهو خدمة الوطن والمواطن».

لم ينفكّ هاتف اللواء ابراهيم عن الرنين أمس الأول، متلقيا «التبريكات» بـ «الصيد النوعي»، أما هو فمعتصم بصمت العارف، مكتفياً بالقول: «دماء شهداء الجيش اللبناني لم تذهب هدرا».

فمن هو هذا اللواء الذي يكرّس حياته للنيل من كلّ من يهدر دماء الجيش والمواطنين؟

مقاتل حتّى آخر خرطوشة

محارب في متراس الوطن، هكذا بدأ اللواء عبّاس ابراهيم حياته العسكرية وهكذا يتابع من وراء متراس الأمن الذي شغف به باكرا إذ جذبته الكيمياء العسكرية بالفطرة والتربية فاجتذبته مؤسّسة الجيش اللبناني.

لم يثنهِ استشهاد شقيقه (جندي الاحتياط) محمّد (20 عاما) ولم يرضخ لتوسّل والدته وتهديداتها بألا تغسل له ثيابه إن دخل الى الجيش، وفي خلفيّة التهديد خشية من إمساك البزّة نفسها التي احتضنت جسد ولدها الأول. لكنّ الولد الثاني تحوّل، بعد مرور 35 عاما في السلك العسكري والأمني، الى خزنة معلومات وأسرار للاعبين محليين وإقليميين. يمشي بهدوء مفاوضاً في أعقد الملفات الإرهابية التي تحركها نزاعات إقليمية وتعيقها طموحات البعض لأدوار وهمية تعرقل «اللواء» أحيانا لكنّها لا تلهمه إلا الهجوم المضاد كما اعتاد حين كان محاربا في الجيش: يقاتل حتى آخر خرطوشة ولو بقي وحيداً في الخندق.

لم ترهبه التهديدات من تنظيمات أصولية حاولت إزاحته مذ كان رئيساً لفرع المخابرات في الجنوب (بين 2005 و2008).

بعد أن تخرّج برتبة ملازم، بدأ خدمته العسكرية في الجنوب عام 1982، إبان الاجتياح الإسرائيلي منسّقا بين الجيش وقوات الطوارئ الدولية «اليونيفيل».

بعدها عُيِّن في فوج «المجوقل»، فبرز ضمن ضبّاط النّخبة وخضع لدورة في «المدينة الكشفيّة» ثمّ مع القوات الأميركية «المارينز».

إبان الاجتياح الإسرائيلي عانى إبن كوثريّة السيّاد (قضاء الزّهراني) كما جميع الجنوبيين من نظام حظر فرضه العدو المحتلّ على المواطنين: ينطلق الى عمله في الخامسة فجرا ليصل الى ثكنته في صيدا عند الثامنة، بسبب كثافة الحواجز الإسرائيليّة.

لكنّ الصدام مع العدوّ الإسرائيلي كان ينتظره أثناء إحدى مأذونيّاته في كوثريّة السيّاد: هاجم الإسرائيليون مراكز الجيش في البلدة، فانبرى حاملاً بندقيّته للدفاع، مطلقاً النار على المهاجمين من دون تلقّي الأمر من أحد لأنّه ببساطة ضابط مأذون، فنال تنويهاً من قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون يفيد بأنّ ابراهيم «هو ضابط شجاع تصدّى للعدوّ الإسرائيلي».

كثيرة هي الروايات التي يخبرها أصدقاؤه عن اندفاعته وبسالته، ومن تلك الروايات «اقتحامه» لمخيم عين الحلوة.

بعد ازدياد التصفيات الداخليّة في العام 2005 في المخيم الفلسطيني الأخطر وارتفاع منسوب التوتّر بسبب صعود الحركات المتطرفة، قلق ابراهيم، وكان مديرا لمخابرات الجيش في الجنوب، من تفجير المخيّم، بعد إشارات ظهرت باحتمال تفجير مخيم نهر البارد في الشمال. لم يقطع تواصله الهاتفيّ مع العقيد منير المقدح. اتصل به مرّة وأبلغه بأنه سيبعث إليه رسالة «خاصّة جدّا» عبر سائقه، وطلب من المقدح ملاقاة السائق الى حاجز «درب السّيم» في المخيّم، ليتسلّمها شخصيّا نظرا الى أهميتها. اتفق الرجلان على موعد عند العاشرة والنصف صباحا، وكان المقدح لا يعرف ابراهيم شخصيا، في حين أنّ الأخير يعرفه جيّدا.

في الصباح طلب ابراهيم من سائقه أن يقلّه الى مخيّم عين الحلوة، رافضا طلب السائق أن يحملا السلاح. كان ابراهيم مرتديا ثيابا مدنية: «جينز» وقميصا قطنيا عاديا. رأى سيارة المقدح مركونة عند الحاجز كما تمّ الاتفاق. ترجّل متوجّها صوب سيارة المقدح وعرّف بنفسه: «أنا سائق العميد ابراهيم»، ثم استقل السيارة الى جانب المقدح الذي أبدى تعجبه لتصرّف «السائق» مطالبا إياه بتسليمه الرسالة، فأجابه بأنه سيسلّمه إياها في المنزل، سأل المقدح: «لماذا في المنزل؟ العميد قال هون..».

أجابه ابراهيم: أنا العميد، قد السيارة وتوجّه الى المنزل، أريد احتساء القهوة عندك.

أراد ابراهيم أن يطلع على جغرافيّة المخيم وتكوينه وتضاريسه وكيفية معيشة الفلسطينيين هناك. وصلوا الى منزل المقدح فيما الأخير صامت بعد أن صعقته المفاجأة، لم ينبس ببنت شفة وهو يحتسي القهوة. بعدها سأل المقدح ابراهيم: ماذا تريد؟ قال ابراهيم: أريد أن أتمشى في المخيّم. حتى هذه اللحظة لم يكن المقدح مقتنعا كليا بعد بأنه «في حضرة العميد ابراهيم». أراد التأكد. اتصل بأحد الأصدقاء الفلسطينيين المشتركين الذين يقطنون خارج المخيّم، فتحدث الى العميد ابراهيم وأكد للمقدح هويته. وبعد جولة في زواريب المخيم، الذي تعتبر بعض مكوّناته المتطرّفة ابراهيم أحد أبرز المطلوب تصفيتهم. طلب الأخير من المقدح ببرودة أعصاب أن يجمعه بـ «عصبة الأنصار».. نفذ المقدح الأمر مجدّدا وهو تحت وقع الصدمة.

اجتمع العميد ابراهيم بأبي طارق السّعدي والشيخ جمال خطاب، وطوت هذه الزيارة صفحة لتفتح أخرى جديدة بين العميد ابراهيم وقيادات المخيم، وصار الملف الفلسطيني في عهدته، وهذا ما جنّب المخيم الانفجار مراراً، حتّى في عزّ الحرب التي شهدها مخيّم نهر البارد بين المتطرفين وبين الجيش اللبناني، فبنى ابراهيم علاقة ثقة مع الفلسطينيين استثمرها لحماية أمن المخيمات وجوارها وفي مقدّمها مخيّم عين الحلوة.

يصف البعض ابراهيم بأنه رجل مخابرات أكثر منه عسكريا، في حين يقول آخرون العكس، أما هو فيقول: «أنا جاهز حيث تقتضي ضرورة خدمة الوطن، في العسكر أم في الأمن». لكنّ الفارق شاسع بين الحقلَين: في المخابرات العسكرية يكون المسؤول رادار المهمّة العسكرية وعينها وأذنها، يوفّر كل المعلومات التي تساعد على إنجاح المهمّة، بالإضافة الى العلاقات العامة الواسعة التي هي محور نجاح المخابراتي فضلا عن السرّية. أما الشجاعة، فهي سرّ النجاح في الجيش.

مغامرات عسكرية عدّة مرت في شريط ابراهيم العسكري، بعضها يصعب إخباره. يروي عنه أصدقاؤه مهمّة قام بها مرة في حيّ السلّم عام 1983 مع مجموعة من العسكريين لإنقاذ عدد من الجنود الأميركيين المحاصرين بعد أن فقدوا الذخيرة.

كلّف ابراهيم كضابط «مجوقل» بفكّ الحصار، وبتوفير الذخيرة لهؤلاء، فاختار 18 عسكريا حملوا الذخيرة على أكتافهم ودخلوا الى حيث يوجد «المارينز» عبر سراديب بعضها يحوي مجارير، واستمروا فترة لتأمين طريق خروج آمن.. بعد انتهاء المهمّة ذهب العسكر جميعهم الى المستشفى بسبب «الجرب»!

حرب تمّوز شعور بالفخر

كانت حرب تمّوز 2006 مفصلية، بذل فيها قائد مخابرات الجيش في الجنوب تضحيات جساماً وأظهر صلابة استثنائية. يكتفي بالقول حين يُسأل: قمت بواجبي تجاه تعزيز صمود الجيش في الجنوب.

أما العارفون، فيروون كيف ساعد، من موقعه، الأهالي. ولم يسمح للعسكر الذين يأتمرون بإمرته بالانسحاب من المواقع الأماميّة في عزّ الحرب، إلا بعد اقتراب العدوّ منهم إلى مسافة 100 متر. فبقي هؤلاء في عز احتدام المعارك في بنت جبيل، وساعدوا في إجلاء الناس بالآليات العسكرية. في رأيه انّ حرب 2006 كانت أصعب من الناحية العسكرية من اجتياح 1982، الأولى كانت مع الفلسطينيين في حين كانت الثانية لبنانية بنتائجها وبآلامها.

كان ابراهيم يشعر بالفخر يوميا بالرّغم مما شهده من مآس: كانت عقيدة الجيش راسخة بالنسبة إلى هوية العدوّ.

في العام 2011، عيّن مديراً عامّا للأمن العام، منتقلاً من الأمن العسكري الى الأمن السياسي. لم يكن معتادا على النمط الإداري والأمني للأمن العام. عمل «المدير» طيلة 3 أشهر على قراءة قوانين المديرية العامّة للأمن العام وتمحيصها، مكتشفاً العالم الجديد المختلف كلياً عن الجيش.

أُخِذ عليه بأنه «عسكر» الأمن العام وهو أداة أمنيّة بامتياز بسبب تأسيسه ما يعرف بـ «وحدة الرصد والتدخّل» التي قامت بأولى عملياتها في نيسان عام 2013 عبر تنفيذ مناورة قتالية بالذخيرة الحيّة في حقل حامات.

برأيه، أن للأمن العام وظيفتين: أمنية وإدارية، وغير صحيح أن عنصر الأمن العام لا علاقة له بالعسكر.

ترسّخ إيمان ابراهيم بأهمية هذه القوة بسبب الظروف الأمنية الصعبة التي يمرّ بها لبنان. وثبتت صحّة رأيه بعد انخراط عناصر الأمن العام في مهامّ عسكرية في طرابلس والبقاع والضاحية الجنوبية.

بالرّغم من قماشته العسكرية، إلا أن اللافت بأنه لا يحبّ اقتناء السلاح الفردي، وهو لا يحمل سلاحاً إلا أثناء مهمة عسكرية، وبرأيه أن السلاح يستخدم في الحروب فحسب. لابراهيم هوايات تشي ببنيته الصلبة، أبرزها ركوب الخيل والصيد.

برز اسم ابراهيم في التفاوض من أجل إطلاق مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا وفي التفاوض في عمليات خطف متفرقة. فكيف يتعاطى المدير مع العقول الإرهابية؟ هل هو «إرهابي صالح» بعقله وأسلوبه؟

يبتسم ويجيب: «لست إرهابيّا.. أنا رجل مسالم، أتفاوض من خلال وسيط مع هؤلاء وليس بالمباشر، جلست مرتين فحسب مع خاطفي حجاج أعزاز».

يقول اللواء ابراهيم إنّ أوّل مبدأ في التفاوض يكمن في معرفة الثمن الذي عليك دفعه، «وعندما يقول الإرهابيون ماذا يريدون أعرف ماذا سأعطيهم».

ماذا إذا بدّلوا رأيهم؟

برأيه أنه يترتّب على المفاوض أن يكون جاهزا لهذا الاحتمال في كلّ لحظة. لا يمكن أن يكون الثمن الأول المطلوب هو النهائي، يجب ترك شيء للاحتياط، هكذا ترك ثمنا شكليا نهائيا في أعزاز إذ زاد الخاطفون أعداداً جديدة من المساجين في السجون السورية، وأعطاهم ربحا شكليا عبر تحرير النساء.

ماذا إذا فشل يوماً في إحدى المهامّ الموكلة إليه؟ يجيب: «أتعلّم من الفشل لكي أحقق النجاح في المرّة المقبلة، ليس الفشل كلّه سلبيات».

في النهاية، يجيد «المدير» تحويل الخسارات إلى مكاسب بفعل صبره الذي لا ينتهي وهدوئه العميق. صبر فنال إطلاق سراح المخطوفين… صبر فألقى القبض على أحمد الأسير… صبر فحوّل الأمن العام الى مؤسسة قريبة من المواطن… صبر ونال من والدته الرضى فعادت تغسل له ثيابه… صبر على معارضة والده له بالدخول الى الجيش رافضا الهجرة قائلا لها عند مفترق في بلدته الجنوبية: «أنا رايح على الجيش وسيأتي يوم تفتخرين بي لأنني فعلت…».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى