مقالات مختارة

«النصرة» الخصم والحكم في مجزرة قلب لوزة عبد الله سليمان علي

 

تفرض «جبهة النصرة» طوقاً محكماً حول قرى جبل السماق في ريف إدلب، لمنع تسريب أي صورة، أو شهادة، حول حقيقة المجزرة التي ارتكبها أميرها التونسي أبو عبد الرحمن وعناصره، الأسبوع الماضي، وراح ضحيتها العشرات من أبناء طائفة الموحدين الدروز، ولا يزال مصير 15 آخرين مجهولاً.

ويأتي هذا الطوق استكمالاً للطوق الخانق الذي فرضته «جبهة النصرة» على هذه القرى على مدار العامين الماضيين، وحاولت من خلاله إخفاء حقيقة تعاملها مع أبناء هذه القرى الذي يخالف «حرية المعتقد» التي تنص عليها جميع شرائع حقوق الإنسان، ويناقض حتى تعاليم الدين الإسلامي الذي يقوم على مبدأ «لا إكراه في الدين»، وذلك من خلال إجبارهم على التخلي عن عقائدهم الدينية، وتلقينهم تعاليم المذهب الوهابي، خاصةً لصغار السن، ومن خلال سعيها إلى محو وإزالة كل ما يشير إلى تراث هذه الطائفة من معابد ومقامات وأضرحة دينية، وحتى كتب.

وإذا كانت «المجزرة العقائدية» بقيت بعيداً عن الأعين، بسبب تواطؤ بعض الأطراف مع «جبهة النصرة» وحرصهم على ألا تخرج هذه الممارسات إلى الضوء بذريعة الخوف على مصير الطائفة، فإن المجزرة الدموية كانت أكبر من أن تُخفى، وأفجع من أن يجري التستر عليها، فتسربت قطرات الدم عبر شقوق الحصار لتُنبئ بحقيقة ما يجري وراء الجدران التي بنتها «النصرة» حول تلك القرى، محاولةً أن تصبغ نزعتها التكفيرية بقناع «التطمين».

ونظراً لوحشية المجزرة وعدم القدرة على السكوت عنها بعد أن خرجت أخبارها إلى العلن، وانتشرت عبر وكالات الإعلام، سارعت بعض الفصائل الإسلامية، على رأسها «أحرار الشام» السلفية «الجهادية» و «أجناد الشام» و «الجبهة الشامية» و «تجمع فاستقم كما أمرت»، إلى إصدار بيان استنكرت فيه المجزرة، ووصفتها بأنها «مخالفة لتعاليم الدين الإسلامي الذي يمنع الظلم وإراقة الدماء من دون حق». وطالب البيان بتقديم «جميع المتورطين إلى محكمة شرعية محايدة».

وفي غمز مبطن من قناة «جبهة النصرة»، واستمرارها في احتضان قيادات «داعشية»، أكد البيان أن سلاح هذه الفصائل «لن يوجه إلا لمن أجرم وبطش بحق شعبنا من النظام والدواعش ومن حالفهم». ويأتي هذا البيان استمراراً لسياسة «أحرار الشام» التي تحاول من خلالها وضع مسافة بينها وبين «جبهة النصرة»، منعاً لتحميلها مسؤولية ما تقوم به بسبب مرجعيتهما السلفية الواحدة.

ويبدو أن هذا البيان الذي فاقت حدّته البيان الصادر عن «الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي اكتفى بوصف المجزرة بأنها «حادثة فردية»، قد استفز «جبهة النصرة» واضطرها إلى إصدار بيان للرد عليه. ولو كانت «النصرة» تشعر بالفعل بالأسف نتيجة المجزرة فإنها لم تكن في حاجة إلى انتظار ثلاثة أيام قبل أن تعبر عن هذا الأسف، كما ليس مبرراً أن تكون هي آخر جهة تصدر بياناً حول الحادثة برغم أنها المعنية بها مباشرة.

ومع ذلك فإن البيان الذي أصدرته «جبهة النصرة» وصاغت عباراته بدقة كبيرة، جاء تكريساً لسياسة الإقصاء والتكفير التي تتبعها بحق الطوائف الأخرى، بل أكثر من ذلك حاول البيان أن يتخذ من المجزرة منصةً كي يشرعن «جبهة النصرة» ويشرعن محاكمها ويفرض على الجميع منطقها وقوانينها. وهذه فرصة لا تعوض بالنسبة إلى «النصرة»، لأن القبول بعرض هذه القضية على محاكمها سيعني، في ما يعنيه، أنها استطاعت الحصول على اعتراف علني بشرعية هذه المحاكم وقدرتها على الفصل في قضايا بالغة الحساسية.

وانطلق البيان من محاولة فرض مبدأ أساسي هو أن «قيادة النصرة» لا علاقة لها بالمجزرة، وأن من ارتكبها هم مجموعة من العناصر من دون الرجوع إلى «أمرائهم» (فهل المقصود هو أبو عبد الرحمن التونسي)، وذلك في محاولة لتحييد هذه القيادة، وبالتالي إمكانية أن تطرح نفسها حكماً للنظر في القضية. ثم حاول البيان ترسيخ صورة الأمان التي يعيش بها أهالي قرى جبل السماق، وأن المجزرة لم تعكر صفاء هذه الصورة، «وما زالت القرية وأهلها آمنين مطمئنين تحت حمايتنا وفي مناطق سيطرتنا»، من دون أن تفسر كيف «تحت حمايتها» ثم تُرتكب فيهم مثل هذه المجزرة؟

لكن البيان حاول التخفيف من وقع المجزرة، من خلال وصفها بأنها «خطأ غير مبرر». ثم أكد أن «كل من تورط في تلك الحادثة سيقدَّم إلى محكمة شرعية، ويُحاسب على ما ثبت في حقه من دماء، وما ذاك إلا تحكيماً لشريعة ربنا». وعدم ذكر «محكمة محايدة»، كما طالب بيان «أحرار الشام»، قد يكون مدخلاً للاختلاف حول هذه النقطة، خاصةً أن التجارب السابقة تدل على أن «النصرة» رفضت أكثر من مرة المثول أمام محاكم لا تكون لها فيها الكلمة الفصل، وما تزال قضية أبو عبدالله الخولي، قائد «حركة حزم» المعتقل عند «النصرة»، متوقفةً بسبب الخلاف على الجهة التي ينبغي أن تحاكمه.

وقد يكون تسريب وثيقة موقعة من وجهاء قرى جبل السماق مؤشراً إلى أن «جبهة النصرة» تسعى إلى عرض القضية أمام محكمة مشكلة من فصائل «جيش الفتح» الذي تهيمن عليه. حيث طالبت الوثيقة الموقعة من ممثلي 11 قرية بـ «تقديم المدعو سفينة (لقب أبو عبد الرحمن التونسي) وعناصره إلى لجنة قضائية من جيش الفتح»، و «إقامة نقطة أمنية دائمة من قبل فصائل جيش الفتح في منطقتنا في كفرتخاريم (التي تتبع لها القرى إدارياً)».

فإذا تحقق هذا المطلب فإنه لا يعني سوى أمر واحد هو أن «جبهة النصرة» ستكون هي الخصم والحكم في قضية مجزرة قلب لوزة، وهو ما يعززه تسريب هذه الوثيقة، لأنه لم يكن ليحدث لولا رضاها بالتسريب، في ظل الحصار الخانق الذي تفرضه على القرى في جبل السماق.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى