مقالات مختارة

استراتيجية اوباما المزعومة د.منذر سليمان

 

اقل من احتواء داعش ودن الاحتلال المباشر

خروج في سياق الدخول والسيطرة

في الظاهر، انفرجت اسارير معسكر انصار الحرب، ولو جزئيا، لقرار البيت الابيض الموافقة على ارسال مزيد من القوات الاميركية للعراق، يبلغ تعدادها الاولي 450 جندي، مصادقا على توصية القيادة العسكرية بضرورة توسيع الانخراط العسكري في ميدان المعارك في العراق. المهام المحددة، للحظة، تلخصت بتكليفها توفير الحماية الأمنية للقوى الاميركية والطواقم الديبلوماسية العاملة هناك، وتدريب بعض القطاعات الأمنية والعسكرية العراقية وخاصة منتسبي العشائر، على ان يتم اعادة النظر بما تقتضيه متطلبات الميدان وفق توصيات القادة العسكريين – الاميركيين بالطبع.

في الخلفية الأهم، تشكل الخطوة تتويجا للمخطط الاميركي الدائم لفرض وصايته على العراق، الى امد غير منظور، والذي سعت اليه واشنطن باطمئنان منذ بدء الحوار عام 2008، مع حكومة نوري المالكي آنذاك، بغية ابرام اتفاقية أمنية اطلقت عليها وصف استراتيجية في البداية، 16 تشرين الثاني / نوفمبر 2008، لترتيب انسحاب القوات الاميركية من العراق. وبعد يومين، بالتمام والكمال من توقيع الاتفاقية، صرح رئيس هيئة الاركان آنذاك، الاميرال مايكل مولين ان “الانسحاب الاميركي من العراق سيخضع للتطورات الميدانية؛” اتبعه تصريح للناطق باسم البنتاغون، جيف موريل، 18 تشرين الثاني، قائلا ان القوات الاميركية لن تنسحب من العراق ما لم تتوفر الظروف (الأمنية) المناسبة على الارض. واضاف ان “الاتفاقية المبرمة ستؤمن الاطار القانوني الذي يسمح لنا بمواصلة العمليات.”

الجدل الاكبر في تفاصيل “الاتفاقية” ارتكز على طلب الجانب الاميركي استثناء قواتها العاملة والقوى الأمنية الخاصة، بلاك ووتر وغيرها، من سريان القانون العراقي بمعاقبة الجناة والمخالفين على اراضيه. واشترطت “قيام لجنة عراقية اميركية مشتركة بصلاحية مقاضاة الاميركيين،” الأمر الذي ينتهك مبدأ سيادة العراق على اراضيه، فضلا عن تفاصيل اخرى تتعلق بتعريف طبيعة “الجرائم والانتهاكات” المقصودة.

ايضا، اعطى الجانب الاميركي لنفسه الحق في السيطرة على الاجواء العراقية حتى ارتفاع 29،000 قدم، وكذلك الحق في ملاحقة “المنظمات والميليشيات غير الخاضعة لسلطة الدولة،” ميليشيا مقتدى الصدر والتشكيلات المسلحة للمقاومة العراقية المناهضة للاحتلال.

الضغوط الاميركية الهائلة التي مارستها ادارة الرئيس بوش الابن على الجانب العراقي، لجره للتوقيع على الاتفاقية، حفلت بها معظم وسائل الاعلام والصحافة الغربية، لعل اهمها ما كُشف آنذاك في بروكسيل، مقر قيادة حلف الناتو، عن نائب وزير الخارجية الاميركية جون نيغروبونتي “مهددا رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي بالاطاحة به ومواجهته مخاطر لا تحمد عقباها ان استمر في رفض التوقيع على الاتفاقية.” واتبع تهديداته بتصريحات مباشرة في زيارة لاحقة لبغداد ولقائه بالمالكي ومسؤولين آخرين بالقول ان “واشنطن لن تسمح بتأخير التوقيع على الاتفاقية، كما لن تسمح لاي طرف كان، سواء في الحكومة او خارجها تعريض أمن قواتنا في العراق ومصالحنا في المنطقة للخطر.”

جدير بالذكر ان ادارة الرئيس بوش الابن اطلقت مصطلح “اتفاقية أمنية،” على نواياها، وما لبثت ان عدلت التسمية الى “اتفاقية انسحاب القوات الاميركية،” ولم تقدمها للكونغرس لاقرارها بمثابة معاهدة بين دولتين – ربما لخلفية اعتقادها ان العراق لم يعد دولة ذات سيادة. ومهدت ايضا الارضية للرئيس المقبل، باراك اوباما، اعلان نيته بترتيب انسحاب مسؤول من العراق، على وقع مشروع عضو مجلس الشيوخ آنذاك جو بايدن لتقسيم العراق الى ثلاثة مقاطعات وفق أسس طائفية وعرقية. عندئذ تنتفي الحاجة الاميركية لابرام اتفاقية أمنية مع حكومة بغداد حصرا.

استعراض خارطة علاقة العراق بالولايات المتحدة اعلاه كان ضروري لتسليط الاضواء على النوايا الحقيقية لاميركا بالعودة للعراق وفق شروط تفضيلية يتسنى فيها ضمان وصايتها وسيطرتها على ارضه واجوائه ومياهه وخيراته الباطنية وسياساته المقبلة الى أمد بعيد.

تصريحات رئيس هيئة الاركان المشتركة، مارتن ديمبسي، الاخيرة باستنساخ تجربة قاعدة “التقدم” العسكرية في محافظة الانبار، كمقر للقوات الاميركية، وانشاء المزيد منها في مناطق عراقية اخرى يعزز النتائج سالفة الذكر.

اشتباكات اعلامية اميركية للتمويه

عشية الاعلان رسميا عن ارسال 450 جندي اميركي للانضمام للقوات المتواجدة في العراق اوضح الرئيس اوباما للكونغرس في كتاب عاجل “استحالة” تحديد مدة مكوث القوات الاميركية الاضافية هناك، يوم 11 حزيران. وجاء في المذكرة ان الولايات المتحدة تحتفظ بقوة قتالية قوامها “16،750 جندي عامل على الاقل، منتشرة في 12 دولة ومنطقة: افغانستان، كوبا، جيبوتي، مصر، العراق، الاردن، كوسوفو، نيجر، الصومال، سورية، اليمن، والمنطقة الوسطى من افريقيا.” المجموعات القتالية الاكبر منتشرة في ثلاث دول: افغانستان والعراق والاردن، وفق المذكرة المذكورة.

كما سعت ادارة الرئيس اوباما استغلال الآلة الاعلامية الضخمة للترويج لبعض الانجازات التي حققتها الغارات الجوية ضد الدولة الاسلامية، بالترافق مع قرار ارسال 450 جندي اضافي. واوضح نائب وزير الخارجية، توني بلينكن، 3 حزيران، ان تنظيم داعش “خسر ما ينوف عن 10،000 مقاتل نتيجة مباشرة للغارات الجوية الاميركية في العراق وسورية، على امتداد 9 أشهر.”

واطلقت الادارة العنان لاستراتيجيتها الجديدة، للرد على الانتقادات المختلفة، ورغم تواضع عدد القوات الا ان مجموع القوات الاميركية في العراق سيفوق 3،550 عنصر، رافقتها بالاعلان عن ايصال اسلحة “جديدة” لحكومة العراق واخرى لاقليم كردستان وميليشيات اخرى – استبقت زيارة رئيس مجلس النواب العراقي، سليم الجبوري (ممثلا لسنة العراق، حسب الوصف الرسمي).

وزارة الدفاع الاميركية بدورها “استبعدت مزاعم مشابهة” قبل بضعة اشهر عن خسائر عالية في صفوف داعش بالقول “ببساطة ليست ارقام ذات مغزى.” الناطق باسم البيت الابيض، جوش ايرنست، لم يشأ مناقضة بلينكن بتأكيده على خسارة تنظيم داعش 1،000 قتيل في معركة عين العرب وحدها.

السيناتور الاميركي المتطرف، جون ماكين، صوب سهام انتقاداته نحو الرئيس اوباما لتواضع خطواته الذي “يعتمد تكتيكات حرب فيتنام الفاشلة لمواجهة الدولة الاسلامية في الشرق الاوسط،” مطالبا الادارة بتعزيز اجراءاتها وتصعيد غاراتها الجوية، وتكثيف عديد القوات الخاصة الاميركية في الميدان “لتوجيه وارشاد الغارات الجوية ضد الدولة الاسلامية.”

واوضح ماكين بحكم خدمته في سلاح الجو واسقاط طائرته من قبل المقاومة الفيتنامية، ان ما نشهده “يذكرنا بحرب اخرى، في زمن اخر يبعد عدة سنوات، حين استند وزير الدفاع آنذاك، روبرت مكنمارا، على استراتيجية مشابهة،” اي ارسال بضعة آلاف من المستشارين العسكريين الى فيتنام.

وسخر ماكين من احصائيات الادارة لقتلى داعش قائلا “خلال مفاخرتها بمقتل 10،000 عنصر من الدولة الاسلامية، فاتها الاقرار بأن عدد المنضوين لصفوف الدولة اعلى من قتلاهم ..”

وزير الدفاع الاميركي الاسبق، دونالد رامسفيلد، ادلى بدلوه ايضا في سياق المعارك ضد داعش لصحيفة “التايمز” اللندنية، 6 حزيران، محذرا من “الحالة الرثة للدول الغربية في تعاملها مع تفشي التطرف الاسلامي” في المنطقة. وزعم رامسفيلد ان “الرئيس جورج بوش الابن اخطأ في ترويج الديموقراطية للعراق .. بل كان هدفاً غير واقعي.”

وسرعان ما تراجع رامسفيلد عن تصريحاته للتايمز التي صدرت صفحاتها الاولى بعنوان عريض “بوش كان على خطأ في العراق، يقول رامسفيلد.” واوضح لصحيفة “واشنطن بوست،” 10 حزيران، انه “مثبط من عدم دقة توصيف المانشيت .. ويتضارب في المضمون مع المقابلة” التي جرت في مكتبه الخاص بواشنطن.

ربما لا ينبغي اصدار حكم على صدقية رامسفيلد، ميزة لم يعهدها طيلة سجله المهني، بل يرجح ان تصريحاته تأتي في سياق تأييد اطراف بارزة في معسكر الحرب لقرار الرئيس اوباما في العراق، ومطالبته القيام بالمزيد.

ماذا بعد؟

تتباين وجهتي نظر الطرفين، الاميركي والعراقي، لطبيعة المهام الموكلة والاهداف المنوي تحقيقها في المدى الآني والقصير. العراق يشكو من تخلف واشنطن عن تزويده باسلحة تم التعاقد عليها ودفع ثمنها، وفي المحصلة الابطاء في التنفيذ. كما يشكو ايضا من تداخل منطقة طيران القوات الاميركية مع القوات العراقية المتواضعة وهي في طريقها لاستهداف مواقع تنظيم داعش، وعزمها على استعادة مدينة الرمادي والتحضير لاستعادة مدينة الموصل من تحت سيطرة داعش.

الجانب الاميركي اثار غبارا كثيفة حول عدم توفر “الارادة والعزم” للقوات العسكرية العراقية لمواجهة داعش في معارك حقيقية، والدلالة على انسحابها “طواعية” في كل من الموصل والرمادي. وعليه، تنوي واشنطن تشديد تحكمها وسيطرتها على القرار الميداني، وامتداداته السياسية والجغرافية، في المشهد الداعشي. اميركا لم تتقدم باستراتيجية متكاملة لاستعادة المدينتين، واكتفت بارسال بضع مئات متواضعة من القوات للاشراف على اداء قوات عراقية حديثة التدريب وتشكو من قلة الخبرة الميدانية، وزجها في اتون الحرب “المتواصلة” ضد تنظيم الدولة الاسلامية.

اوضحت البنتاغون، في سياق مهام القوات الاضافية، ان المطلوب تجهيز قوة عراقية مقاتلة قوامها 10،000 مقاتل “من عشائر الانبار،” اي مضاعفة العدد الراهن المتوفر، وتجنيد ما ينوف عن 3،000 مقاتل جديد لملء الفراغ الناجم عن اختلال هيكلية الفرقة العراقية الثامنة، المنوطة بمهمة الدفاع عن الانبار، ومقرها مدينة الحبانية.

الاستناد الى لغة الارقام وحدها يقود الى التضليل والاستنتاجات الخاطئة، خاصة عند النظر الى الفترة الزمنية الدنيا المطلوبة لاعداد وتدريب مجندين حديثي العهد، والتي تتراوح بين 6 الى 12 شهرا، وضمان استيعابهم واستخدامهم الاسلحة الجديدة بفعالية مقبولة؛ فضلا عن توفر عدد كاف من ضباط الصف ذوو خبرة قتالية لادارة المعارك.

الخبراء بالشأن العسكري يلفتون النظر الى تكرار الرئيس اوباما اخطاء القيادة النازية في المانيا ابان الحرب العالمية الثانية، حين اضطرت لتجنيد عدد كبير من الشباب لتعويض النقص في الجبهات القتالية بعد اخضاعهم لفترة تدريب قصيرة مكثفة. الرئيس اوباما، وفق رؤية اولئك، واركان ادارته “يعلقون آمالا كبيرة على نجاح خطة التدريب والاستيعاب بوتيرة مسرعة، لدخول اتون المعارك والحاق الهزيمة بجيش (داعش) يقر له اعداؤه بخفة حركته وسرعة تكيفه وحسن قتاله في ساحتي العراق وسورية.”

ولا يستبعد اولئك الخبراء ان تواكب استراتيجية اوباما الجديدة هزيمة اسلافه في فيتنام.

الانتخابات التشريعية التركية: زلزال يهدد سياسات اردوغان

المراقب لردود افعال النخب السياسية والفكرية الاميركية، حول نتائج الانتخابات التركية، يستطيع التوصل بيسر الى شبه اجماع بأن ما حدث لا يشكل هزيمة لمستقبل حزب العدالة والتنمية سياسيا، بل اعتبر زلزال يقض مضاجع الرئيس اردوغان وليس انتكاسة في سياق تحولات في الرأي العام التركي الذي رفض منح اردوغان صلاحيات رئاسية موسعة – ليصبح الحاكم بأمره.

العامل الفارق في نتائج الانتخابات كان الاداء الباهر غير المتوقع لحزب الشعوب الديموقراطي، بحضور كردي كبير في صفوفه، وتخطيه للتوقعات الاولية التي كانت تشير الى فوزه بنحو 50-60 مقعدا برلمانيا الى حصوله على 80 مقعدا، من مجموع 550، برئاسة قائده الشاب صلاح الدين ديمتراس.

حزب اردوغان الحاكم نال 43% من مجموع الاصوات مما يحرمه من تشكيل حكومة بمفرده، كما اعتاد عليه منذ ما يزيد عن عقد من الزمن؛ وهو امام مفترق وفاصل سياسي قاسي: اما التحالف مع حزب او احزاب اخرى مضطرا، او الدفع باتجاه انتخابات مبكرة كما كان يروج داخل اوساطه، وهي المهلة الدستورية المحددة بفترة 45 يوما لتشكيل حكومة. الخيار الثالث هو تشكيل حكومة باغلبية احزاب المعارضة، خطوة قد تدفع اردوغان وفريقه المغامرة بها انطلاقا من مسلمة عدم قبول التحالف ومشاركة اي طرف آخر السلطة.

التداعيات المباشرة لصيغة الحكم المقبلة تنذر بافول سيطرة وهيمنة العدالة والتنمية، اذ ان “حكومة تقوم على التحالف” لن يكون بوسعها الاستمرار بدعم الجماعات المسلحة والتكفيرية في سورية، كما اوضح ديمتراس غداة فوز حزبه.

تباين السياسات الاميركية والتركية، فيما يتعلق بسورية، اصبح متداولا في وسائل الاعلام. اذ اوضح مدير الاستخبارات القومية، جيمس كلابر، لاعضاء الكونغرس ان لدى تركيا اولويات تبعد عن الاولويات الاميركية لا سيما هاجسي المقاومة الكردية والاطاحة بالحكومة السورية. الجانب الاميركي، علنا على الاقل، يحيل الاولوية للحد من تمدد قوات تنظيم الدولة الاسلامية.

رشحت حديثا بعض التفاصيل لتعزز تباين الموقفين، ابرزها تصريح للرئيس اوباما مطلع الاسبوع يؤكد فيها استمرار تقاطر الالاف من المقاتلين الاجانب الى سورية والعراق، دون الاشارة الواضحة للتسهيلات التركية؛ و”معاقبة” انقرة لواشنطن بعدم السماح لها استخدام قاعدة انجيرليك الضخمة لشن غاراتها الجوية على مواقع داعش في الشمال من سورية.

المأزق البارز في معادلة الحكم التركية لن يتم تجاوزه بيسر وسرعة، نظرا لتشبث كافة الاطراف بمواقفها وتبادلها عدم الثقة فيما بينها. القوى المعارضة يجمعها معارضة حزب العدالة والتنمية واردوغان تحديدا؛ وكلها لم يحظ بتجربة الحكم بصيغة تحالفية تتطلب تقديم بعض التنازلات واستيعاب الآخر، الأمر الذي فشل فيه اردوغان فشلا ذريعا واستمر للحظه في استخدام لغة سياسية متعجرفة ضد خصومه.

يرجح البعض ان تصرفات الرئيس اردوغان ومناهضته للمتظاهرين في ميدان التقسيم، ايار 2013، واستمرار حكومته اعتقال البعض والتضييق على الصحافيين كانت اشارة البدء لمرحلة افول نجم اردوغان واحلامه في استعادة امجاد لا تصلح للقرن الحادي والعشرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى