مقالات مختارة

بين الثقافي والسياسي ودور المثقف العربي د. فايز رشيد

 

قلنا سابقا وكتبت عن اهمية اطلاق المشروع النهضوي العربي ، للخلاص من الاشكاليات الكبيرة ، والصراعات المذهبية والطائفية والاثنية التي تنخر جسد اكثر من بلد عربي ، اضافة الى اشكال اخرى من الصراعات: سياسية تصل حدود التناقض التناحري في الكثير من الأحيان، وصراعات مختلفة تتخذ اشكالا متعددة .

لقد رهنت اطلاق هذا المشروع بالمثقفين العرب ، باعتبارهم الاداة المهيأة لحمله على كواهلهم ، والانطلاق لتنفيذه.. ولذلك ، ولكي تؤتي الثمار أكلها لا بد من استعراض واقع المثقف العربي في ملامحه الرئيسية ، ذلك ان المثقف النهضوي العربي الاصيل ، ومن خلال قراءة الواقع بكل أبعاده السياسية والاخرى الاقتصادية والاجتماعية والبنيوية.. يصاب بحالة من الانفصام بين الحقيقة والشكل المتصور او المتخيل في الذهن ، لما يتوجب ان يكون عليه هذا الواقع في الوقت الذي تقتضي فيه عملية التغيير المأمولة دقة استعراضه كأساس راهن ومستقبلي لا بد من الاستناد اليه.. الى عناصره الايجابية ، الكامنة في الذهنية الجماهيرية ، والتي يمكن مخاطبتها على طريق محاولة استنهاضها. وذلك من اجل ترسيخ الوعي الوطني والقومي كعامل اساسي وشرط رئيسي لانجاح المشروع.

وحتى اللحظة ، فان تعريفا محددا للمثقف لم تجر صياغته ، انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها اليه ، وانطلاقا من رؤية دوره: ان بالمشاركة في عملية التغيير السياسي او في سياسة التغيير المجتمعي ، فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف ، ومن بينهم ابن خلدون ، الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل (اصحاب القلم) و(الفقهاء) و(العلماء) والذي افرد فصلا كاملا من مقدمته ، أكد فيه ان العلماء من بين البشر ، هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها.

ولعل من اقرب التعريفات الى الواقع ، ما ذكره غرامشي في تعريفه لمعنى المثقف ، منطلقا مما هو خاص بنمط الانتاج ، لذا يرى المثقف ، بالتالي ، في وجوده الاجتماعي… وإذ ذاك فان نقل الثقافة من عالم الافكار واهتمامات ذوي الاختصاص الى عالم الصراع الاجتماعي ، هو الذي يعيد صياغة المثقف عند غرامشي ، الذي لا يرى المثقف الا في وظيفته النضالية ، التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير وهكذا ، ووفقا لجمال الدين الافغاني ، فان دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من اجل تفسير النبل الانساني واضاءة الطريق لأبناء امته على قاعدة التمتع بالروح النقدية واستخدامها في مراجعة الماضي. والمثقفون مرتبطون ايضا في نتاجاتهم ، بمدى معايشتهم للواقع من حيث ادراكه ومدى التأثير

فيه. ان احدى الحلقات المركزية في دور المثقف هي نقد الثقافة السلبية ، التي تحاول التسيد كظاهرة ، بغية تخليصها من الانحرافات التي تمنعها من تحقيق قيمها على ارض الواقع.. كذلك فان دور المثقف يكمن في تطوير العوامل الايجابية في الثقافة ، من اجل العمل على امتدادها افقياً في المجتمع ومنهجتها في مؤسسات من اجل تحويلها الى ممارسة عملية واقعية معاشة ، وواجب المثقف: التصدي للعولمة الثقافية ، التي لا تستهدف الحوار بين الثقافات ، بل تسييد الثقافة الغربية ، لأن منظومة علاقاتها هي التي اثبتت كفاءتها وفقا لـ (فوكوياما) ووفقا لصراع حضارات (هنتنغتون)، بالطبع دون التمترس وراء شعارات مثل: دعوى المحافظة على الاصالة التراثية ، واغلاق العيون عن كل جديد ، بل يمكن المواءمة ما بين الاصيل القديم والبعض من العناصر الايجابية الجديدة ، التي في المعادلة النهائية ، تستطيع ان تقدم افضل خدمة للاصيل القديم.

ولو فصلنا ما سبق على ارض الواقع ، نرى انتشارا متسارعا للثقافة الهابطة: ما يسمى بالاغاني الجديدة ، التي تعتمد على العري والايحاءات الجنسية الشبقة ذات الكلمات التي لا تحمل اي معنى ، سوى الاستهتار بالقيم ، وسوى محاولة تحويل وتحوير اتجاه معركة الثقافة الرئيس الى اتجاه نقيض تحت دعاوى كثيرة: الحرية ، التقدمية ، الانفتاح على الاخر.. وغير ذلك من الشعارات وللأسف تجد من بين المثقفين العرب ، وتحت يافطة تلك الشعارات ، من يروجون لمثل هذا السقوط الثقافي.

ايضا ، فان مقولات مثل: اللاجدوى من المقاومة ، عبثية المقاومة ، اللايقين ، وغيرها من المقولات كانت قد أخذت تنتشر منذ سنوات ، والذي حد من اندفاعة افتراشها لقطاعات عريضة في الواقع العربي ، تجربة انتصار المقاومة اللبنانية على العدو الصهيوني في عدوان اسرائيل على لبنان عام 2006 ، كذلك ما تحققه كل من المقاومتين: الفلسطينية والعراقية من انجازات مهمة على ارض الواقع نقول ذلك لأن المدخل الثقافي ، جرى استعماله من اجل تنفيذ المؤامرات على الشعوب ، وكان ذلك منذ اربعينيات القرن العشرين… وما زال يستعمل مدخلا حتى اللحظة: سواء من خلال ما يقدم من دعم غربي لكم هائل من المنظمات غير الحكومية ، التي اخذت تنتشر مثل نبات الفطر في العالم العربي ، تحت دعاوى وشعارات كثيرة ، تبدو تقدمية في مظهرها ، او من خلال اشكال اخرى كثيرة وللأسف ، تجد من بين المثقفين العرب من اصبحوا يدافعون عن مثل هذه الظواهر ، وتجد من بينهم من اصبحوا يطلقون على المقاومة المشروعة للشعوب… ارهاباً وكذلك من يدعون الى التغريب الكامل بدعوى الحداثة ، ومن (يفتخرون) بدفاعهم عن التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني ، والتقارب التام والتواءم مع الاستهدافات الامريكية والغربية ثقافيا للعالم العربي.

ولأن المثقف جزء من مجتمعه ، والمجتمع يعيش اجواء الدولة التسلطية والدكتاتورية الرسمية ، ومع بروز الدولة العربية القطرية الحديثة ، فان البنية الفوقية لها ، جعلت من نفسها بديلاً للفرد والمجتمع ، وتحاول ان تنوب عنه في كل المسائل ، مما اضعف روح المبادرة لدى المثقف ، وأدى في كثير من الاحيان الى اغترابه في وطنه او الى اغترابه الفعلي الى الخارج ، والى وجود رقيب داخلي في ذاته ،

من زاوية ثانية ، وقع بعض المثقفين العرب في حبائل النظام الرسمي العربي ، وخسروا مهمتهم في خطاباته وترويج سياساته المختلفة ، او المثقفين الذين يناقضون مواقفهم السابقة ، وينقلبون مائة وثمانين درجة في التعليق على نفس الحدث.. ولكن مع اختلاف الجغرافيا، هذا لا يعني عدم تطوير المثقف لذاته من خلال التفاعل مع المستجدات ، او لانخداعه سابقا بالوهج الذي يشع من ظاهرة ما.. ليعود فيما بعد ليكتشف حقيقة هذه الظاهرة ،

ومن المثقفين ، من هم في حقيقتهم أشرس وأعتى من أعتى النظم الدكتاتورية عندما يتسلمون مسؤولية ما، وقد تحدث عن هذه الظاهرة المفكر العربي: محمد عابد الجابري ، وبخاصة اذا ما جرى انتقاد لذواتهم او لما يقدمونه من اعمال وكتابات، ومن بين المثقفين من لا يستغلون تقنيات العصر فيما يقدمونه من اعمال ، او ما يكتبونه من مواقف متناقضة تماما في فترة زمنية قصيرة ، او ما يتحدثون عنه في ندوات سوى للترويج لذواتهم المتضخمة بـ (الأنا) والاشارة الى نجاحاتهم ، على حساب الحقائق الضائعة في حمى الحوارات الدائرة ، وما يكرسونه من انتاج لثقافة بائسة ، بعيدة عن اي مظهر حضاري. ومن بين المثقفين من يتفكرون لوعود بمواقف معلنة لهم ، ويمارسون نقيضها.

في نفس المجرى ، يصب المثقفون ، الداعون الى القطرية البغيضة بعيداً عن الهموم القومية ، وكذلك الداعون الى اعادة عجلة التاريخ الى الوراء في اصولية بغيضة. ان احد اهم عوامل نجاح المشروع النهضوي ، تتمثل في تكاتف المثقفين الاصيلين العرب قطريا وقوميا في فضاء انساني رحب من القيم الانسانية والديمقراطية الحقة ، التي تحرر الذهن من لاحكام المسبقة والتي تؤكد على حرية الفكر والممارسة المسؤولة.

ان من اهم عوامل انجاح المشروع هو التزاوج ما بين الثقافي والسياسي بما يعنيه ذلك من تفاعل ما بين الجماهير وطليعتها وكافة ادواتها التغييرية المؤهلة للسير بالمشروع حتى مدياته الاخيرة وتتويجه بالنجاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى