مقالات مختارة

سوريا: فيتنام تركيا! محمد نور الدين

 

لفت في الأيام الأخيرة حراك مكثف وشائعات كثيرة تتصل بالمؤسسة العسكرية في تركيا.

الخبر الذي أثار لغطاً واسعاً هو إعلان رئيس الأركان نجدت اوزيل انه سيأخذ إجازة لمدة 15 يوماً، تنتهي في 22 أيار الحالي. السبب انه سوف يجري عملية بروستات. وهو قد أجراها فعلاً.

غير أن العــديد من المصادر التــركية عكــس مساراً آخر، وتفسيراً مختــلفاً، لهذا الحدث. إذ إن أكثر من حدث قد توالى، وكلها متصلة بالوضع في سوريا.

1ـ أصدر القضاء التركي قبل شهر قراراً باعتقال 17 ضابطاً بتهمة التعاون مع جماعة فتح الله غولين. وقبل أيام فقط طلب القضاء نفسه اعتقال عدد من القضاة وتسريح آخرين. وإذا كان بعضهم كان قد ارتبط اسمه بالتحقيق في قضايا الفساد، التي تورط فيها أعضاء من الحكومات السابقة وابن رئيس الجمهورية بلال أردوغان، فإن آخرين كانوا قادوا تحقيقات حول إرسال الحكومة والاستخبارات التركية شاحنات محملة بالأسلحة إلى المعارضة السورية، وخصوصا تنظيم «داعش» في مطلع العام 2014. كما أن القضاء أمر باعتقال أحد ضباط الجيش من الذين لا يزالون في الخدمة، وارتبط إسمه أيضاً بتوقيف الشاحنات وتفتيشها. واستؤنف اعتقال من يشتبه بانتمائه إلى غولين من عناصر الجيش على نطاق واسع نهار الأربعاء الماضي.

رئيس الأركان بعد كل الذي حصل قبل سنوات مع الجنرالات السابقين في تهم الانقلابات وسجنهم، ومن ثم إطلاق سراحهم قبل مدة، ينتابه القلق من التعرض للمؤسسة العسكرية، رغم انه ساهم سابقاً بمواقفه المتساهلة في تمرير قرارات الحكومة وإفراغ المؤسسة من كبار جنرالاتها.

2ـ في العاشر من أيار الحالي قام رئيس الحكومة التركية أحمد داود اوغلو بـ «زيارة» إلى ضريح سليمان شاه في المكان الجديد الذي نقل إليه داخل الأراضي السورية في قرية أشمه بعمق 200 متر. وقد رافقه في تسلله هذا وزير الدفاع عصمت يلماز ورئيس الأركان بالوكالة قائد القــوات البرية خلوصي آقار. التسلل ليس الأول من نوعه، فهو اعتاد على عمليات التسلل هذه وأشهرها ذهابه قبل سنوات إلى كركوك من دون إذن ولا علم حكومة بغداد.

الزيارة إلى ضريح سليمان شاه بحد ذاتها لم تأتِ من فراغ. فالانتخابات النيابية بعد أقل من شهر ولا بأس من حصد بعض الأصوات القومية الإضافية. لكن التسلل حدث بعد يومين فقط من كلام لسكرتير عام حزب الشعب الجمهوري المعارض غورسيل تكين من أن تركيا تتحضر لدخول سوريا عسكرياً خلال يومين فقط. ويقول تكين إن مصادره موثوقة جداً ومئة في المئة. وهي المصادر نفسها التي أخبرته أنه ستتم عملية نقل ضريح سليمان شاه من مكانه القديم إلى الجديد في 22 شباط الماضي. إفشاء ما يمكن أن يكون حقيقة، دفع داود اوغلو إلى أن يدخل إلى سوريا بدلاً من الجيش محاولا تكذيب كلام تكين.

اوزيل على ما يبدو ليس مرتاحاً للتطورات. ويقال انه اختار توقيت العملية لكي يقطع الطريق على عمليات عسكرية كان سيقوم بها الجيش التركي بأمر من الحكومة في سوريا، بحيث لا يمكن إجراؤها في ظل غياب رئيس الأركان. فكانت حركة داود اوغلو الاستعراضية في زيارة سليمان شاه محاولة للخروج من انكشاف الفضيحة وطي خطط العمليات التي كانت متوقعة.

لا ينفصل الموضوع الداخلي عن محاولات منع الجيش من الإمساك، ولو جزئياً، بزمام المبادرة. بعض المصادر ترى أن أردوغان يتحضر للمرحلة الأهم في مسيرته السياسية، وهي الانتقال بالبلاد إلى نظام رئاسي بعد الانتخابات النيابية. والسبب لا يقتصر على النزعة الفردية التسلطية بل يطال المشروع الإسلامي بكامله في الداخل. جمع السلطات بيد شخص واحد، هو رئيس الجمهورية، يسهل ويسرع من إجراءات طي الصفة العلمانية للنظام، وتمكين النزعة الإسلامية من التغلغل، وبالتالي السيطرة على كامل مفاصل الحكم. هذا يتطلب أيضاً تحييد العسكر تحسبا من أي مفاجآت. صحيح أن مغامرة عسكرية في سوريا تقوي النزعة العسكرية في البلاد، ولكنها ستصرف طاقتها في الخارج وعلى الأراضي السورية.

الهاجس السوري و«عقدة الأسد» لا تفارق نوازع أردوغان ورئيس حكومته احمد داود اوغلو وكوامنهما. ورغم تراجع المشروع التركي وهزائمه المتكررة، غير أن وصول الملك سلمان إلى السلطة في السعودية واستبداله خطر «الإخوان المسلمين» بالخطر الإيراني فتح الباب من جديد أمام إحياء أمل اردوغان في استعادة المبادرة في سوريا، فكان إسقاط إدلب وجسر الشغور تجسيداً لمرحلة جديدة من التعاون التركي ـ السعودي ـ القطري. وقد تشجع أردوغان نتيجة الانخراط السعودي العسكري المباشر في اليمن.

لكن الأسئلة هنا كثيرة، كما المقاربات. فاليمن للسعودية ليست مثل سوريا لتركيا. ولكن لو افترضنا أنها هي نفسها، فما الذي انتهت إليه الحرب السعودية على اليمن؟ كما أن التنسيق السعودي ـ التركي ـ القطري في سوريا كان قائماً على قدم وساق قبل إطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وظهور الخلاف التركي ـ السعودي، ومع ذلك لم يحقق أياً من أهدافه، خصوصا إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. فما الذي تبدل اليوم لكي ينجح هذا التحالف حيث أخفق من قبل، وفي ظروف أكثر مؤاتاة؟

إن سقوط إدلب أو منطقة هنا وهناك لا يعني أبداً حسم المعركة المستمرة في كونها كراً وفراً، وبالتالي لا يقاس هذا التطور كمعيار لما تكون عليه المرحلة المقبلة عسكرياً. أوليس ما يحققه الجيش السوري و«حزب الله» في منطقة القلمون فراً للمعارضة بكل فصائلها المدعومة تركيا وخليجيا؟

والتســاؤل الأكــبر انه إذا كانت تركيا ترغب في دخول ســوريا فعــلاً فلماذا لم تفعل ذلك من قبل حين كان النــظام وحلفاؤه في وضــع أقل قــوة بكــثير من الآن. إن هذا يحــيل إلى عامــل آخر أظهــرت التجــارب أن أنقــرة يمكن لها أن تمتــعض، أو تشاغب، أو تــزعل، ولكن لا يمكنها أن تمضي، وهي العضو في حلف شمال الأطلسي، في مغــامرة لا توافق عليها الولايات المتحدة. يمكن للســعودية ان تغامر في اليـمن فهي في النهاية ليست عضوا في «الأطلسي»، وليســت بالتالي مكبلة بضوابطه. لكن الوضع مع تركيا مختلف جداً. وهي في لحظة ما لن تجد إلى جانبها سوى حلف شمال الأطلسي، لكن عندما هو يقرر وليست هي.

وتنقل صحيفة «زمان» عن مصادر أميركية في واشنطن أن الإدارة الأميركية لم تبدل أولوياتها في محاربة «داعش» أولاً، تاركة مسألة الأسد في مراتب متأخرة من اهتماماتها. وإذا كان الجميع انتظر اجتماع واشنطن بين الرئيس الأميركي باراك أوباما وزعماء دول الخليج، فإن غياب الملك السعودي سلمان عن اللقاء دليل قوي على أن السياسة الأميركية في المنطقة لم تتغير، وفي أولى أولوياتها انجاز الاتفاق النووي مع إيران حتى نهاية حزيران المقبل. ومثل هذا الهدف لا يتيح فرصة لتغيير كبير في موازين القوة على الأرض في سوريا، في ظل الحزم الكامل لمحور المقاومة، ومعه روسيا، في منع أي تغيير دراماتيكي في سوريا، ولو اتفقت السعودية وتركيا وقطر.

في ظل هذا المناخ، جل ما يسعى إليه الحلف التركي ـ الخليجي هو اللعب في بعض الهوامش لعلها تؤثر في سياسة أوباما، علماً أن تركيا لها أجندتها الذاتية، التي تريد أن تؤتي أكلها في سوريا فقط، من دون أن تعمم هذه النية لتشمل اليمن، حيث تركت تركيا السعودية هناك وحيدة. تركيا مع تحالف ثلاثي في سوريا ولكنها ليست مع تحــالف مشابه في اليمن. ولن يطول هذا التعاون إلا لحاجة الرياض لإنجاز ما في أي مكان يعوض المأزق الذي هي فيه في اليمن.

وكم كانت المقارنة موفقة بين رفض رئيس الأركان التركي أثناء حرب الخليج الثانية نجيب طورومتاي اقتراح الرئيس التركي حينها طورغوت اوزال المشاركة في غزو العراق في العام 1991، وكانت النتيجة استقالته من دون ان يجرؤ اوزال على إرسال قوات إلى العراق، وبين اعتراض رئيس الأركان الحالي نجدت أوزيل على خطط يحكى عنها لمغامرة عسكرية في سوريا لن تنتهي، وفقا لبعض المعلقين الأتراك، إلا إلى تحويل سوريا إلى فيتنام تركية بعدما باتت اليمن فيتنام سعودية.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى