مقالات مختارة

تأثير الانتخابات البريطانية على وضع المملكة في أوروبا: جورج فريدمان

 

سيطر جو من التوتر على المملكة المتحدة بعد انتخابات وصفت بانها محتدمة وقريبة بين الاطراف المتنافسة، فوز حزب العمال او المحافظين لم يكن بالأمر المهم. حيث يتطلع البريطانيون اليوم إلى معرفة من سيحكم خامس أكبر اقتصاد في العالم. الانتخابات ستتمخض عنها حكومة لن تحدد فقط الاتجاه الاقتصادي لبريطانيا، بل أيضا ستحدد مصير وحدة المملكة المتّحدة مع تواصل رغبة الاسكتلنديين في الانفصال، ووجودها ضمن المفوضية الأوروبية، ودورها في المنظومة الدولية كقوة عظمى، وغير ذلك من التحديات، التي سيبقى بعضها ثابتا حتى لو تغيّرت الحكومة، وبعضها الآخر سيتحدّد مصيره بتحديد هوية ساكن “10 داوننغ ستريت” القادم .

لا تبدو المكاسب التي سيحققها حزب الاستقلال المرتبط بالقضية الاسكتلندية كبيرة جدا، لكن أي نتيجة قد يحققها الحزب يمكن أن تخلق بعدا جديدا للسياسات الاستراتيجية البريطانية، خاصة في ظلّ موجة الحركات الانفصالية المتصاعدة في أوروبا.

وبينت الاستطلاعات أن حزب العمال في إسكتلندا يتخلف بفوارق تنبئ بأنه سيخسر جل المقاعد الواحد والأربعين التي ربحوها في 2010. وذلك يعني أن حزب العمال سيكون في وضع يصعب عليه تجنّب تقدّم المحافظين في عدد المقاعد، لكن يمكن أن يحكموا بدعم من القوميين الإسكتلنديين.

إلى حدود السبعينات من القرن العشرين كانت إسكتلندا تصوّت بشكل مشابه كثيرا لبقية المملكة المتحدة حيث تنقسم الأصوات بنسب متقاربة بين المحافظين والعمال، بيد أن تراجع الصناعات الثقيلة في إسكتلندا إضافة إلى السوق الحرة وسياسات رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر المعادية للاتحادات العمالية في الحكومات التي ترأستها بين 1979 و1990 جعلت حزبها مكروها في إسكتلندا.

وفي سنة 1999 قرّر طوني بلير إحداث برلمان اسكتلندي منفصل يكون صاحب سلطة في الكثير من السياسات الداخلية (بما في ذلك القدرة على جمع الضرائب)، وقد خلق كل ذلك مسرحا استطاع فيه القوميون الاسكتلنديون متابعة هدف الاستقلال لإسكتلندا. وفي سنة 2011 فاز القوميون الاسكتلنديون بأغلبية في البرلمان الاسكتلندي ونجح زعيم الحزب القومي الاسكتلندي في تنظيم استفتاء في سبتمبر 2014، لكن فشل مشروع الاستقلال بفارق لا يتعدى عشر نقاط (55 مقابل 45 بالمئة)، فاستقال أليكس سلموند وعوضه متحدث أكثر جاذبية هو نيكولا ستورجن.

حزب الاستقلال والعوامل الاسكتلندية

حزب الاستقلال هو على حد سواء ضد السياسات الاوروبية ومناهض للهجرة. يعارض التكامل البريطاني مع الاتحاد الأوروبي، في المسائل العملية والمسائل العقائدية. حزب الاستقلال يرى ان الاتحاد الأوروبي يقوض الرفاه الاقتصادي البريطاني والسيادة البريطانية، ويرى ان السيادة البريطانية واجبا أخلاقيا. كما يرى الثقافة البريطانية باعتبارها السمة الأساسية للسيادة البريطانية، ويعتبر مسالة المهاجرين تهديدا لبريطانيا.

المملكة المتحدة هي دولة أوروبية. هويتها الوطنية تنبثق من التاريخ واللغة والثقافة المشتركة. القومية الأوروبية مختلفة تمام الاختلاف عن القومية الأمريكية، التي بنيت حول إقامة ثقافة تغيير حيوي للهوية.

القومية الأوروبية تجمع وتفرق. تجمع أولئك الذين لديهم تراثا مشتركا معا. وتبعد أولئك الذين يختلفون. وهذا هو السبب في اهمية الاستفتاء الاسكتلندي. حتى بعد 300 سنة، 45 في المئة من الاسكتلنديين مستعدين للتفكير في تحويل اسكتلندا لدولة مستقلة، والتركيز على مبدأ الهويات الوطنية المختلفة.

تمثل الانتخابات البريطانية الحالة الراهنة لأوروبا. هناك تناقض عميق إزاء صعود الاتحاد الأوروبي وصعود الأحزاب المناهضة لأوروبا غير المستعدة بعد للحكم ولكن لا تزال تؤثر على النظام (كما هو واضح من وعد كاميرون بإجراء استفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي). هناك مشاعر معادية للهجرة، مدفوعة من الخوف من الإرهاب الإسلامي وتدفق المهاجرين من أوروبا الشرقية لاتخاذ بعض الوظائف منخفضة الأجر. وأخيرا، هناك صعود للحركات القومية في البلدان حيث كان يعتقد أن مسألة الجنسية قد حسمت قبل قرون، ورسمت طاقتها من الأسئلة التي أثيرت حول الحركات الأخرى والتي اصبحت قوية بشكل غير متوقع.

هناك بعض النقاط التي تميز اتجاهات المملكة المتحدة اولا: الأحزاب السائدة، بغض النظر عن أيديولوجيتها الرسمية، وهي أكثر أو أقل التزاما لفكرة الاتحاد الأوروبي. ثانيا، هناك أحزاب سياسية ناشئة ملتزمة بالاستقلال، بمعنى عدم المساءلة والحفاظ على أساس الهوية الوطنية. أخيرا، هذا الأساس يقوض الوحدة في بريطانيا، وذلك لأنه تم اللعب بفكرة الاستقلال.

وينجم عن كل ذلك عواقب جيوسياسية، ليس لأن بريطانيا ستكسب أو تفقد إمبراطورية، فقد فقدتها بالفعل، وليست في سبيلها مجددا لاكتساب أخرى.

لكن القصة مفادها أن بريطانيا دولة استراتيجية، لأسباب مختلفة، بينها موقعها الجغرافي، وقوتها، وكذلك فإن ما يحدث فيها يهم العالم، على نحو يتجاوز الاهتمام ببعض البلدان الأخرى.

دعونا ندرس الوضع في بريطانيا، ليس بمنظور الأحزاب السياسية الداخلية، ولكن من منطلق الوضع الجيوسياسي.

الضرورات الجيوسياسية لبريطانيا

تستمد الاستراتيجية البريطانية سياستها من الاستراتيجية الإنجليزية. الاستراتيجية الإنجليزية ترتكز على ضرورة الحفاظ على وحدة الجزر البريطانية، أو على الأقل منع القوى الخارجية من تطوير قاعدة عملياتها ضد انجلترا. وهذا يعني خليط مهيمن من انكلترا مع اسكتلندا وويلز. فقدان أي من اسكتلندا وويلز يفتح الباب في نهاية المطاف إلى وضع قوة معادية إلى الشمال أو الغرب.

الأمر الثاني هو منع القوات البحرية المعادية من العثور على ملاذ آمن قرب انجلترا. وأدى ذلك إلى هيمنة اللغة الإنجليزية في ايرلندا وساحل القنال الإنجليزي الجنوبي، جنبا إلى جنب مع الساحل النرويجي.

الامر الثالث السيطرة على البحار لدرجة أنه يمكن بناء إمبراطورية من شأنها أن توفر لها الأمن دون أن تعتمد على شبه الجزيرة الأوروبي للتنمية الاقتصادية.

حتى الحرب العالمية الثانية، كانت بريطانيا قد حققت اهدافها. التهديد بالانفصال الاسكتلندي، قد تكون عواقبه وخيمة، وقد يخلق خطرا مبدئيا لبريطانيا.

بريطانيا هي القوة العليا المتوسطة المستوى. وهي خامس أكبر اقتصاد في العالم، تتصدر أعلى 19 دخل للفرد في العالم، وفقا لصندوق النقد الدولي، و لا يزال لديها جيش كبير يمكن نشره في العالم.ولولا الولايات المتحدة لكانت بريطانيا قوة إقليمية كبيرة، ولكن ليست حاسمة في حد ذاتها.

تاريخيا، بريطانيا لم تكن القوة التي يمكن أن تفرض نفسها على البر الأوروبي أو حتى في كثير من مستعمراتها. وكانت استراتيجية بريطانيا اكثر دهاء بناء على أمرين. الأول في قيادة البحار، مما اتاح لها التحكم في الوصول إلى العالمية، وبالتالي الحصار عليها كان في الإرادة. وثانيا استراتيجية استخدام القوة البحرية وتأثيرها المحدود على الأرض للحفاظ على توازن القوى ليس فقط في أوروبا بل أيضا في الهند وغيرها من المستعمرات.

بريطانيا لم تعد وثيقة لكونها القوة البحرية المهيمنة. فقد اتخذت الولايات المتحدة هذا الدور. ولا يمكن أن تؤثر على ميزان القوى في القارة الأوروبية. وفي الوقت نفسه، فإنها تدرك أن حماية سيادتها، والحفاظ على حيز المناورة المتاح لها تجنب ابتلاعها من قبل كيانات أكبر وهو أمر أساسي لمصالحها الوطنية، كما للحفاظ على وحدة أراضيها وسلامة الجزر البريطانية.

لم يعد يمكن لبريطانيا ان تجبر الآخرين على تحقيق التوازن بين بعضها البعض. ومع ذلك، يمكن أن تعتمد على وضعية تسمح لها بتحقيق التوازن لنفسها. بمعنى معين تحتفظ المملكة المتحدة بميزان القوة الاستراتيجية التاريخية من خلال إيجاد توازن بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وبالنسبة لبريطانيا، إذ أدرجت مصالحها مع أي كيان يشكل خطرا أساسيا عليها يتم تجاهله فورا من خلال رفض أن تخضع نفسها وتحافظ على حرية عملها.

بطبيعة الحال، من حيث التكلفة. سعر الحفاظ على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي إلى حد ما، هي المشاركة في مؤسساته. سعر الحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة هو أنه يجب أن تكون مستعدة لمحاذاتها بالمواقف السياسية والعسكرية. يجب على بريطانيا محاولة الاعتماد على أوروبا، حتى لو نفسيا فقط. ويجب أن تقحم نفسها في الحروب العالمية حتى لو أنها ليست في مصلحة المملكة. الكثير من شبه الجزيرة الأوروبية قد تعارض المغامرة الأمريكية، ومشاركة بريطانيا قد تحدث انشقاقات في أوروبا والولايات المتحدة تزيد المناورة في الغرف السياسية.

في نواح كثيرة، هذه الاستراتيجية أبسط من تعقيدات بريطانية مع ميزان القوى السياسة في أوروبا أو الهند. ببساطة بريطانيا تدير الموقف الخاص بها. وكما تضعف أوروبا تميل المملكة المتحدة أقرب إلى الولايات المتحدة.

مشاكل في استراتيجية بريطانية

ولكن هناك خطرا أساسيا في هذه الاستراتيجية. أنها بنيت حول وحدة بريطانيا وحول تقاسم مصلحة الهوية المشتركة الوطنية البريطانية. القوتان السياسيتان ظهرتا حتما في هذه الاستراتيجية. عند ضعف أوروبا، الحركات المناهضة لها تبدأ بالحديث عن تعقيدات الاستراتيجية البريطانية. حزب الاستقلال يريد الاستقلال عن أوروبا من دون فهم أن الاستقلال البريطاني لا يمكن أن يستمر إلا من خلال وجود علاقات متعددة قريبة او بعيدة. الاستقلال لا ينشأ من أصل واحد في بريطانيا ولكن من خلال استيعاب الكل. حزب الاستقلال يجيد إدارة العلاقات مع أوروبا، ولكن الخطر هو دائما في موقف التبسيط الذي سيطغى على قدرة المملكة المتحدة على إدارة نفسها، ولعل ما يثبت صحة ذلك هو عدم قدرة الأحزاب الرئيسية في بريطانيا، وعبر أوروبا، على توضيح استراتيجياتها المتبعة.

أما الخطر الآخر فيرتبط بالهوية الوطنية التي مرت بتطورات على مدى قرون عديدة، وهي الوحدة التي جعلت الإمبراطورية البريطانية أمرا ممكنا، لكن تلك الإمبراطورية ولت منذ نحو نصف قرن، وبدأت الحقيقة الكامنة لبريطانيا في الظهور، كما هو الحال في دول أوروبية أخرى.

وتتألف المملكة المتحدة من أقطار عديدة، لكن الاسكتلنديين على وجه الخصوص حافظوا على هويتهم الوطنية، ربما بدرجة أقل شدة ومرارة من الأيرلنديين، لكنهم حافظوا عليها.

يبدو أن الانحطاط الذي بدأ في أوروبا عام 1918، وسقوط الإمبراليات، والذي استمر بعد ذلك عبر انهيار الاتحاد السوفيتي، والتأثيرات الهائلة على الدول الأوروبية، لم ينته بعد، عندما تناور بريطانيا من أجل صالحها القومي، يجب أن تضع في حسبانها ما الذي تعنيه كلمة وطن، وهو المفهوم الذي بات أقل تسامحا؛ كل جماعة مميزة لديها الحق في تقرير مصيرها.

وبينما تناور بريطانيا، تدور تساؤلات إذا ما كانت تلك المناورات تصب في صالح بريطانيا ككل، أم إنجلترا فحسب.

الحزب الوطني الأسكتلندي لا يمتلك برنامجا واضحا في كافة المسائل، بل يتبنى موقفا أخلاقيا وحيدا وهو ضرورة أن يهتم الأسكتلنديون بالصالح القومي الأسكتلندي، والتعاون مع إنجلترا على ذلك الأساس، وليس من خلال ما يعتبره الحزب دمجا قسريا.

يشارك في الانتخابات البريطانية كل من حزبي الاستقلال، والوطني الأسكتلندي، بجانب الأحزاب الرئيسية.

لكن ينظر إلى كلا الحزبين باعتبارهما هامشيين، لأنهما لا يأخذان، كأمر مفروغ منه، تلك الحكمة التقليدية التي تتجسد بعمق في المملكة المتحدة، والتي لا ينظر إليها باعتبارها أحد الخيارات، بل وكأنها النظام الطبيعي للأشياء.

وطرح حزب الاستقلال تساؤلا حول إذا ما كانت العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة تصب في المصلحة القومية البريطانية، أم تقوضها.

من جانبه، ارتكزت تساؤلات الحزب الوطني الاسكتلندي على كينونة بريطانيا ذاتها، وإذا ما كان الاتحاد يصب في المصلحة الذاتية الاسكتلندية.

ويؤثر كل من هذين الحزبين بشكل عميق في قدرة بريطانيا على وضع نفسها بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث يتساءل أحدهما عن مدى قيمة أوروبا، بينما يتساءل الآخر عن بريطانيا ذاتها.

ومن الناحية المؤسسية، يبدو مستحيلا على الأحزاب الرئيسية البريطانية التعامل بجدية مع حزبي الاستقلال، والوطني الاسكتلندي، واللذين يندرجان خارج إطار الثقافة الاستراتيجية البريطانية، والتي تعتبرهما دربا من الجنون.

وبالرغم من ذلك، إلا أن الحزبين يتحديان الافتراض الذي يشكل الثقافة الاستراتيجية البريطانية، ولا يمكن افتراض أنهما لن يفوزا على المدى الطويل.

قد يكون تبسيط الأمور هو المنهج الذي يتبعه حزب الاستقلال، ولكن هناك فضيلة في كونك بسيطا.

وبعد عقود من سقوط الإمبراطورية البريطانية، يأتي الحزب الوطني الاسكتلندي ليتساءل عن معنى أن تكون بريطانيا، ولماذا يكترث الاسكتلنديون.

لقد كان من الصعب على روما الحفاظ على وحدتها بعد أن خسرت إمبراطوريتها، ولم تخرج بريطانيا بعد خارج تلك الدراما التي بدأت عام 1945.

ستراتفور

ترجمة: وكالة اخبار الشرق الجديد- ناديا حمدان

https://www.stratfor.com/weekly/how-british-elections-represent-state-europe

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى