مقالات مختارة

صيفا حارا من الاضطرابات قد ينتظر اميركا د.منذر سليمان

 

آلام العنصرية تنفجر في اميركا

جذور الممارسات العنصرية تمتد الى بدايات تشكل النظام الرأسمالي العالمي، في القرن الخامس عشر. لم تتراجع وتيرتها في اميركا بل تسارعت وتطورت بفضل وفرة التقنية الحديثة لتوثيق جرائم اعتداءات الشرطة في السنوات القليلة الماضية على المواطنين العزل. تتواتر حوادث “انفجارات” تجري في احياء سكنية مهمشة، يقطنها بغالبيتها العظمى السود والاقليات والمضطهدين في المجتمع الاميركي. الانفجار في كل مرة يستهدف مؤسسات النظام، اجهزة الشرطة في هذه الحالة، ومصالح اقتصادية يملكها كبار المستثمرين، مما يؤشر على وعي فطري لفروق مداخيل الطبقات

.

ما جرى في مدينة بلتيمور الساحلية هو حلقة في سياق حلقات متأصلة في طبيعة النظام السياسي والاقتصادي و”نتيجة حرمان الاميركيين من اصول افريقية حق المشاركة في تقرير المصير،” وفق توصيف الاخصائي في علم الاجتماع دارنيل هانت، وبعيدة كل البعد عن الروايات الاعلامية المتداولة التي تحمل الضحية مسؤولية ماجرى. للتوضيح، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” رواية تفيد بأن الضحية في هذا الحادث، الشاب فريدي غراي، قام بايذاء نفسه بنفسه خلال فترة اعتقاله في سيارة ترحيل للشرطة. سرعان ما تم تفنيد المزاعم التي لا تخدم الا الجاني – رجال وجهاز الشرطة؛ ولم تتراجع او تعتذر الصحيفة عن فعلتها الغير بريئة.

قبل “بلتيمور” جرى توثيق عدة حوادث مأساوية اشهرها مدينة فيرغسون، بولاية ميزوري، تلتها اشتباكات في مدن اخرى اهمها مدينتي لوس انجليس ونيويورك، وسيتبعها حوادث واشتباكات اخرى ربما اشد شراسة وحدة.

عنف الشرطة والفقر ولدا الانفجار

ترتبط سلسلة الحوادث والاشتباكات بعوامل ذاتية وموضوعية بارزة، ما تلبث ان تشعلها شرارة قد تبدو حادثة عرضية عند البعض. تتميز معظم الاحياء التي يقطنها فقراء السود باهمال عميق من السلطات المحلية وتراجع مستويات توفير الخدمات الاساسية، واغراقها بحوانيت لبيع المشروبات الروحية، ومراكز لصرف الشيكات، وبقاء العديد من البنايات والاماكن مهملة ومهجورة. هذا فضلا عن مستويات عالية من البطالة تتجاوز 50% من الشباب في عدد من المدن. تلك كانت طبيعة الحي الذي اندلعت فيه المواجهات مع جهاز الشرطة في بلتيمور.

تسابقت مرافق المؤسسة الحاكمة، ممثلة بالاجهزة الاعلامية الكبرى، لتغطية الاشتباكات والتركيز على ما اقترفته ايدي المحتجين مهما كان طفيفا. وعملت بوعي منظم لابعاد شبهة المسؤولية عن جهاز الشرطة وممارساته القاسية والعنصرية ضد المواطنين المهمشين. بل برعت في تركيز تغطيتها المكثفة على مشاهد الانفلات ونهب بعض المؤسسات التجارية، وابتعدت عن مجرد ذكر خلفية ما دعى رجال الشرطة ارتكاب جريمة قتل شاب اسود اعزل شوهد هاربا من ملاحقة الشرطة.

الاستاذ الجامعي هانت، وآخرين ايضا، فندوا اسطورة العدالة والمساواة الاميركية التي عممت التهميش والفقر قائلا: “لدينا رئيس اسود لكن معظم الاميركيين السود يعانون حاليا من سوء الاحوال الاقتصادية اكثر مما كانوا عليه قبل 20 عاما.

نادرا ما يتم تناول العلاقة المشحونة بالشكوك بين اجهزة الشرطة، بشكل عام، والمواطنين السود بشكل خاص والاقليات ايضا. توضح الكاتبة باتريشا فيرنانديز-كيلي، واحد سكان احياء بلتيمور المهمشة، تلك المعاناة بالقول: “ينشأ الفقير في دولة تعد من اغنى دول العالم ويستدعيه للتعامل اليومي مع ممثلي الدولة، وهي تجربة تختلف بشكل كبير عن مثيلتها لدى السكان الافضل حالا.” وتمضي بالقول ان شابا اسودا تم الاعتداء عليه بالضرب من قبل رجال شرطة المدينة لانه رفض الجلوس قرفصة على الارض عندما داهمه رجال شرطة بلباس مدني، بعدما اشترى حصته من عشاء يومه ..”

احد شبان حي بلتيمور السود من المحتجين اخبر طاقم من الصحافيين ان “الجيل القديم (المسالم) لا يدرك حقوقه، لن نتخذ مقعدا خلفيا بعد الآن. لا نريد العيش كما تعودوا هم عليه. انظروا حولكم، سيكون مستقبلنا افضل.” اشارت صحيفة “بلتيمور صن” الى مدى عسكرة جهاز شرطة المدينة اذ تلقى “منحة اجهزة ومعدات قيمتها نحو نصف مليون دولار من ترسانة وزارة الدفاع .. تضمنت عربات مضادة للالغام واخرى مدرعة ومعدات لمكافحة الشغب، واجهزة لتتبع الهواتف الشخصية.”

كشف جهاز شرطة المدينة عن بدء العمل في “مركز المراقبة،” لجمع معلومات استخبارية من كافة احياء المدينة، نهاية العام الماضي. في تقرير لشبكة (ايه بي سي) للتلفزة، اوضح ان معدات المركز المتطورة تتيح لمسؤولي الشرطة مشاهدة كافة اشرطة كاميرات المراقبة الموضوعة في مختلف نواحي المدينة؛ تتبع وتحديد مكان تواجد نشطاء الوسائط الاجتماعية، وتسخير تلك المعلومات لرسم تضاريس مخطط حركة الوسائط الاجتماعية في المدينة باسرها.

الاشتباكات مع الشرطة ضمت مؤخرا ميليشيات عنصرية من البيض، احدثها الاسبوع الماضي في منجم “شوغر باين،” بولاية اوريغون (في اقصى الغرب الاميركي). استقدمت الميليشيات قوات حليفة لها من عدة ولايات وحشدتها في مواجهة “هيئة ادراة الاراضي” الفيدرالية التي تسعى للسيطرة على مساحات شاسعة ووضعها تحت ادارة الدولة المركزية. في مناطق اخرى جنوبي الولايات المتحدة تجري وزارة الدفاع مناورات عسكرية، قمة الاحجار الكريمة 15، والتي ينظر اليها سكان المناطق القريبة بعين الريبة والشك مو نوايا البنتاغون لمصادرتها واعلانها منطقة عسكرية. الأمر الذي استدعى حاكم ولاية تكساس احضار قوات الحرس الوطني التابع لامرته في الولاية وتكليفه بتتبع ومراقبة نشاط البنتاغون هناك.

احداث المنجم بدأت قبل نحو اسبوعين عقب تحذير لعماله صادر عن هيئة الاراضي وتطلب منهم التوقف عن العمل وتفكيك معدات الحفر، في صراع قضائي طويل تزعم بموجبه الهيئة ان ما فوق المنجم لا تعود ملكيته لشركة التنجيم. وصعدت الهيئة تهديداتها معلنة عن نيتها اقتحام المكان، الأمر الذي حفز مالكه الاستنجاد بعدة ميليشيات يمينية، بعضها شارك في احداث مزرعة بندي، نيسان 2014، والذي اسفر عن تراجع الهيئة وعودتها خالية الوفاض.

الرئيس السابق لجهاز شرطة نيويورك الضخم، كيفن كلارك، اصدر تحذيرا علنيا للمسؤولين في المدينة يحثهم على الاستفادة من دروس الاشتباكات الاخيرة في فيرغسون وبلتيمور، والتي “ستنتقل عدواها الى مدينة” نيويورك لا محالة. واضاف في تصريح لشبكة تلفزيون “نيوز 1” ان استمر المسؤولون في تجاهل الأمر “والابقاء على سذاجتهم (المهنية) بان المدينة لن تشهد اعتصامات مدنية تؤدي الى اضرام النار في سيارات (الشرطة)، ونهب المتاجر، حينئذ عليك الاستمتاع بمشهد بالغ السذاجة.”

خيارات الاجهزة الرسمية

عززت الحكومة المركزية، عبر وزارة الأمن الداخلي واجهزة اخرى، اجراءاتها للحيلولة دون اندلاع الجولة المقبلة من الاحتجاجات، وتستعد لتشديد برامج تدريب قوات الحرس الوطني وتكليفه بمهمة اخماد الاضطرابات. ما لا يلمسه المراقب هو استدخال هيئات رسمية غير منوطة بمهام الأمن في توفير الامكانيات المادية لتدريب فرق القوات الخاصة؛ منها وزارة الزراعة؛ مجلس امناء السكك الحديدية؛ هيئة تطوير وادي تنسي؛ مكتب ادارة شؤون الموظفين (الفدرالي)؛ لجنة حماية سلامة المنتجات الاستهلاكية؛ الهيئة المركزية لحماية الاسماك والحيوانات البرية؛ ووزارة التربية.

الانعطافات السياسية في موازين القوى، لصالح الحزب الجمهوري، حفزت بعض المسؤولين للنظر باستخدام القوات المسلحة لاخماد الاضطرابات الداخلية – اجراء لم يطبق منذ نحو 50 عاما. الكلية الحربية التابعة لسلاح الجيش الاميركي اصدرت دراسة مؤخرا تناشد فيها كافة فروع الاسلحة الابقاء على درجة الجهوزية وتستعد لتنفيذ اوامر تقتضي قيامها بمهام السيطرة على الاحتجاجات المدنية في الداخل الاميركي ان تطلب الأمر.

نشر احد الصحافيين المخضرمين، كريستوفر هيدجيز، ملخصا لما تضمنه تقرير الكلية الحربية من خشية انفلات الوضع الأمني والتحذير بالاستعداد لمواجهة واخماد “اعمال عنف ونوازع تفكك استراتيجي في الداخل الاميركي .. والتي قد تتم اثارتها عبر انهيار اقتصادي غير منظور؛ (او) مقاومة داخلية منظمة؛ تفشي حالات الطواريء في جهاز الرعاية الصحية؛ او غياب فعالية المؤسسات السياسية وبسط الأمن؛ انتشار العصيان المدني (مما يستدعي) المؤسسة الدفاعية لاعادة ترتيب اولوياتها في مواجهة موت محقق والدفاع عن النظام العام والأمن الانساني.”

تضخم اجهزة الدولة المركزية، لا سيما الأمنية والمراقبة، منذ ولاية جورج بوش الابن والى عهد اوباما الحالي عزز مشاعر عدم الثقة بالخطاب الرسمي شملت قطاعات واسعة وتيارات سياسية وعرقية متعددة. الانتخابات النصفية الاخيرة، 2014، اكدت تنامي حجم الابتعاد عن الثقة العمياء بالحكومة، اذ اعربت نسبة لا تتعدى 20% من مجموع الناخبين عن بقاء ثقتها في الاجهزة الحكومية لاداء واجباتها على اكمل وجه، مقابل 79% عارضوا ذلك.

في قراءة معمقة لنتائج عدة استطلاعات للرأي تبين ان 54% من الشعب تعتبر الحكومة المركزية بانها تشكل تهديدا للحريات الفردية بدلا من حمايتها من كل سوء؛ مقابل 22% لا زالت ثقتهم مستمر بالحكومة. عند حسبان النتائج وفق التصنيف العرقي، وهو عنصر اساس في آلية عمل كافة الاجهز الحكومية، ترتفع نسبة الشك بين صفوف السود والاقليات الاخرى. حالة لقاء استثنائية جمعت بين البيض والسود في مسألة حق الفرد باقتناء السلاح، اذ لوحظ مناداة بعض المجموعات السوداء النشطة بضرورة اقتناء السود لسلاح ايضا.

لاسرائيل” دور فاعل في شرطة بلتيمور

العنوان لا يرمي لمفاجأة البعض، بل التعبير عن حالة قائمة لعلاقات وثيقة بين الاجهزة الأمنية “الاسرائيلية” واجهزة الشرطة الاميركية المختلفة، والتي كشف بعض النقاب عنها في احداث صدامات مدينة فيرغسون مع نهاية العام الماضي.

في مطلع شهر تشرين الثاني لعام 1999 كشف “متحف الهولوكوست” في مدينة واشنطن العاصمة عن دورة توعوية لجهاز شرطة مدينة بلتيمور، يمتد ليوم واحد، يستضيف فيه رجال الشرطة “لاضفاء بُعدٍ ابداعي لبرامج تدريب الجهاز،” والتركيز على عامل العنصرية في مسلك الشرطي. المتحف اضاف انه ينوي تكرار الدورة لتشمل “اجهزة فيدالية واخرى تتبع الولايات والمجالس المحلية” لتدريب رجال الشرطة. برنامج ظاهره بريء، لكن ما علاقة الشرطة الاميركية ومهامها في حفظ الأمن وحادثة من حوادث الحرب الكونية قبل ثلاثة ارباع القرن.

تلقى جهاز شرطة بلتيمور عقب ذلك دعوة “لزيارة اسرائيل.” المؤلف الاميركي المثير للجدل، ماكس بلومنثال، اوضح يوم 29 نيسان ان اعضاء شرطة بلتيمور قاموا بزيارة “اسرائيل” في شهر ايلول / سبتمبر 2009 تلبية لدعوة من منظمة يهودية تدعى “مشروع التبادل.” هناك، تبادل الاميركيون “ونظرائهم الاسرائيليون” المعلومات المتوفرة حول افضل السبل والمعدات التقنية المتوفرة في مجال “الأمن ومكافحة الارهاب.” واضاف بلومنثال ان جهاز شرطة بلتيمور زار “اسرائيل” مرة اخر بدعوة نظمها “المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي،” رمى قيام الجهاز الاميركي تدوين ومشاركة “الدروس المستفادة من الدورة في اسرائيل،” مع اقرانهم الاخرين في الاجهزة الأمنية الاميركية.

الدروس المستفادة اوضحتها النقابة الاميركية للحريات المدنية الشهيرة في تقرير استعرض مسلك جهاز شرطة بلتيمور بين اعوام 2010-2014، قائلا ان الفترة الزمنية شهدت مقتل نحو 109 اشخاص في مواجهات مع اجهزة شرطة الولاية المختلفة، 70% من الوفيات كانت بين السود، 40% من الوفيات كانت عزلاء من السلاح. الأمر الذي “اضطرت” فيه سلطات بلتيمور المحلية، بما فيها جهاز الشرطة، دفع تعويضات مالية لعائلات الضحايا بعد ادانة الشرطة بضرب الضحايا ضربا مبرحا دون سبب، وبلغت 5،7 مليون دولار. يشار ايضا الى ان الغالبية من اعضاء جهاز شرطة المدينة لا يقيم فيها، بل يقطن مناطق اخرى قريبة وبعيدة عنها.

بلتيمور مقدمة لاحداث قادمة

انتشرت المظاهرات التضامنية مع سكان بلتيمور في عدد من المدن الاميركية، لا سيما المدن الكبرى القريبة منها، اسوة بما شهدته التظاهرات عقب احداث فيرغسون نهاية العام الماضي، لتفند مزاعم السلطات بأن تلك الاحداث استثنائية ومعزولة ولا يربطها ببعضها اي علاقة.

يشار في هذا الصدد اهمية توقيت التضامن مع بلتيمور الذي يصادف الذكرة الثالثة والعشرين لحدث جلل اصاب مدينة لوس انجليس، عام 1992، حين اعتدى اربعة رجال شرطة مدججين بالاسلحة على مواطن اعزل، رودني كينغ، تلاه تبرئة المحكمة لرجال الشرطة، اعقبه مظاهرات صاخبة واخرى تضامنية في العديد من المدن الاميركية.

استاذ التاريخ في جامعة هيوستن بولاية تكساس، جيرالد هورن، يعزو الاساليب العنفية والاضطهاد الذي تتعرض له الاحياء السكنية ذات الاغلبية السوداء على ايدي رجال الشرطة الى العنصرية المتأصلة في النفوس، بل انها تسكن عميقا في ارث اقتناء الرقيق، والذي لم تنجح كافة السياسات والبرامج في القضاء عليه. واوضح ان “اصول ادارة اجهزة الشرطة في المناطق الحضرية تكمن في بعد العبودية بالضبط .. اي استعادة لمشهد الدوريات الأمنية المختصة باستجواب الرقيق والتحقيق مع الافارقة” آنئذ.

ما لم يستكمله الاستاذ الجامعي والخبير بنضالات السود هو الاشارة الى مساعي اجهزة الشرطة الحثيثة لتجنيد مخبرين واختراق النشطاء بين السكان، والتركيز على مراقبة وتعقب العناصر القيادية لاستهدافها لاحقا، وزرع بذور الفتنة عبر اولئك ليقومو بنشاطات تخريبية تنسب للمحتجين. بعضه تجسد في بلتيمور ومدن اخرى. على الضفة المقابلة، قام عدد من النشطاء بعمليات استطلاع لمقر جهاز شرطة بلتيمور، مما يعزز التوقعات بأن تأجيج الاحتجاجات قائم على قدم وساق يتضمن الدخول والسيطرة على مقر الجهاز – الأمر الذي سينجم عنه مجزرة مروعة بكل المقاييس تستفيد منه الشرطة والاجهزة الرسمية بالدرجة الاولى.

تتالت روايات جهاز الشرطة ودفعت بها سريعا لوسائل الاعلام التي تلقفتها وبنت عليها سيناريوهات واستنتاجات تصب في خدمة الاجهزة الأمنية. احدى الروايات المتداولة تكاد “تجزم” توفر معلومات مؤكدة للشرطة تفيد باستعداد “اعضاء العصابات اطلاق النار على رجال الشرطة.” الثابت في بعض مظاهر احتجاجات بلتيمور توزع المظاهرات باشتراك اعداد قليلة في عدة احياء من المدينة بتوقيت موحد بهدف تشتيت جهود الشرطة. الأمر الذي يدل على تخطيط مدروس للقيام بهجوم كبير يعقب المظاهرات المتعددة.

الاجهزة الرسمية تتعمد التعتيم على “البراهين والادلة،” ان وجدت. ولذا تتعسر جهود الحكم على احقية المزاعم من عدمها. الثابت ايضا ان الظروف القاسية التي اشعلت حرائق الاحتجاجات لا زالت حاضرة دون توجه حقيقي لمعالجتها، خاصة انها ليست حديثة الولادة، بل تمتد الى عصر العبودية والرقيق. ويبدو تحرك الادعاء العام السريع نسبيا لتوجية تهم اجرامية بحق 6 من اعضاء الشرطة في بلتيمور محاولة احتوائية لامتصاص النقمة المتصاعدة من السكان الغاضبين على انتهاكات الشرطة.

مؤشرات ينبغي النظر اليها

الاحتجاجات التي شهدتها بلتيمور ومدن اخرى شبيهة لم يسجل فيها مشاهدة او استخدام السلاح من قبل المحتجين. بالمقابل، الميليشيات اليمينية مدججة بالاسلحة بعضها مصمم لخوض الحروب. ظروف تلك الميليشيات ناضجة بدرجة كبيرة للتصادم المسلح مع الاجهزة الرسمية، وتلقى دعما لا بأس به من قبل صقور الحزب الجمهوري وممثليه في الكونغرس، الأمر الذي يفسر بعض الشيء تلكؤ وتردد تلك الاجهزة في مواجهتها وتجريدها من السلاح.

القوى السياسية المناهضة للحروب، بكل تشكيلاتها وتوجهاتها، تنشط في استمرار ظاهرة الاحتجاجات وامتدادها على عدة مدن وتجمعات حضرية. مدينة نيويورك كان لها نصيب كبير من المظاهرات التي القي القبض فيها على نحو 100 عنصر عقب اشتباكات جرت مع رجال الشرطة وسط المدينة، الذين يؤدي تواجدهم الكثيف الى مفاقمة الاحتجاجات وخروجها عن رسالتها السلمية.

تتزايد مطالب القيادات الشبابية بين السود للتزود بالسلاح، كما اسلفنا، مما يعد خروجا على ظاهرة الاستكانة والخنوع التي فرضت عليها عبر اساليب متعددة، شملت احتواء البعض والانخراط في المؤسسات التجارية طمعا في تحقيق مكاسب ذاتية.

تتزايد ايضا مظاهر استطلاع يقوم بها النشطاء لمقرات حكومية، بعضها حقيقي وبعضها الاخر تكتنفه المبالغة، بيد انه من المرجح انتشار الظاهرة في المدن الاخرى كانتشار النار في الهشيم. احتجاجات بلتيمور دلت على الافق المحدود لاجهزة الشرطة، مما استدعاها طلب مزيد من القوى الداعمة من دوائر الشرطة في المناطق المجاورة، من بينها شرطة العاصمة واشنطن التي اوفدت ما لا يقل عن 50 شرطيا مدجج بالسلاح لقمع الاحتجاجات.

تضخمت اعداد الميليشيات اليمينية مؤخرا، وتقدرها بعض المراكز البحثية بانها تتراوح بين 100،000 الى 200،000 عنصر. ساحات اشتباكها لا تضم المدن واحياءها المختلفة، بل مناطق جغرافية شاسعة ومتباعدة، مما ينذر بمواجهات قاسية وطويلة حين اندلاعها.

ماذا بوسع السلطات القيام به او التحضير له. بعض الجواب يقدمه المفكر الاميركي المرموق، بول كنيدي، في مؤلفه الشهير “صعود وسقوط الحضارات،” اذ ينبيء بتردي الاوضاع وترهل الدولة نتيجة “فرط التوسع الاستراتيجي.”

تردي الاوضاع الاجتماعية واتساع الهوة في الفرص والمداخيل الاقتصادية تلاحق النظام القائم، وتثبت عجزه المرة تلو الاخرى عن اجتراح الحلول لها، بل مفاقمتها. يضاف لذلك البعد العنصري المتأصل وتصدر خطاب المتشددين انصار “السوق الحرة غير المقيدة بلوائح وقوانين،” لتتشكل لوحة تنذر بهزات اجتماعية مقبلة قد لا ننتظر طويلا معاينتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى