مقالات مختارة

دعم الدولة لمطالب الأرمن المحقّة لا يُؤثّر على علاقتها مع تركيا هل نسيَ اللبنانيّون السفاح جمال باشا وإعداماته ؟ دوللي بشعلاني

 

«عندما يدين أي شخص في العالم، إبادة جماعية، حصلت في الماضي أو الحاضر، فهو لا ينظر الى ديانة الأشخاص الذين قتلوا، بل الى الجريمة التي ارتكبت بحقّ الإنسانية»، قالت أوساط سياسية منتقدة الأصوات التي علت في طرابلس معترضة على قرار وزير التربية الياس بو صعب بالتعطيل يوم الجمعة (في 24 نيسان في الذكرى المئوية للمجازر الأرمنية التي ارتكبتها تركيا). ومن هنا، فإنّ التضامن مع الشعب الأرمني الذي يعيش في لبنان منذ مئة عام، والذي اندمج في المجتمع اللبناني، على ما أوضحت، ليس قائماً على أساس أنّ «الأرمن مسيحيون».

فإنّ إقحام السياسة في كلّ قرار تتخذه الحكومة، خصوصاً إذا ما كان يتعلّق بأمر إنساني، أصبح أمراً غير مقبول في لبنان، بحسب الأوساط نفسها. وإذا طلب الأرمن اليوم من الدولة التركية، وبعد مئة عام على فقدانهم لأجدادهم وأرضهم، أن تعترف بارتكابها الإبادة الجماعية بشكل رسمي، خصوصاً أنّها خطّطت لها بهدف إبادة الأرمن وبلادهم عن وجه الأرض، فهي لا تُضخّم الأمر ولا عدد الذين جرى قتلهم خلال الحرب العالمية الأولى من قبل جمعية الإتحاد والترقي التي كانت تستلم الحكم التركي آنذاك. على العكس تماماً، تؤكّد، فإنّ الأرمن أظهروا على مرّ السنين، طول بالهم بهدف الحصول على حقّهم الإنساني، رغم كلّ ما فقدوه من أجداد وأرض وحقوق.

وأن يرفع الأرمن في لبنان ودول الإنتشار، كما في أرمينيا اليوم شعار «أتذكّر وأطالب»، فهم بذلك يُطالبون العالم كلّه بالإعتراف بالإبادة التي حصدت مليون ونصف مليون أرمني من قبل أجداد الأتراك، ولا يجب بالتالي أن تعلو أصوات إسلامية في طرابلس للدفاع عن الحكّام العثمانيين انطلاقاً من تسييس الذكرى فترفع الأعلام التركية (فقط لأنّ الأتراك من الطائفة الإسلامية السنيّة). ولتذكير هؤلاء فقط فإن الأتراك قد حكموا لبنان طوال 400 عام، لم يكن خلالها يعيش في نعيم الباب العالي، بل على العكس تماماً، كما أنّ جمال باشا المعروف بالسفّاح، قد نفّذ أحكام الإعدام شنقاً بحقّ الوطنيين المثقّفين اللبنانيين والسوريين على دفعتين في ساحة البرج في بيروت التي سُميت بعد ذلك «ساحة الشهداء»، كما في ساحة المرجة في دمشق، وذلك في 21 آب 1915، و6 أيّار 1916.

وإذا قام لبنان اليوم بدعم الأرمن في الحصول على مطالبهم المحقّة، تضيف الاوساط، فهذا لا يعني أنّه يُعادي الدولة التركية، فما قامت به تركيا بحقّ الأرمن والسريان والآشوريين، كما بحقّ اللبنانيين، منذ مئة عام وأكثر، لا نقوم اليوم بمحاسبتها عليه، لكن عليها التمتّع حالياً بالشجاعة للإعتراف بارتكابها هذه الإبادة الموثّقة تاريخياً، وإن قامت بطمس وتشويه بعض الوقائع وتغيير أسماء بعض البلدات التي كان يقطنها الأرمن، وغير ذلك، علّها بذلك تمحو التاريخ ويُساعدها على الإنكار رغم اعتراف دول عدّة بهذه الإبادة، مطالبة إيّاها بالتعويض على الشعب الأرمني.

أمّا أنّ بعض الجهات في هذا البلد تخشى على علاقته مع الدولة التركية من الإهتزاز، فتقول الأوساط نفسها، بأنّ علاقة الدولة اللبنانية مع سائر الدول في العالم لا تقوم على أساس تأييد حقّ، أو عدم تأييده، والمطالبة به أو عدم المطالبة به، وإنّ دعم الحكومة لمطالب الأرمن المحقّة لن يُعكّر صفو علاقتها مع تركيا. فلبنان لا يحقد على الدولة التركية بسبب ما ارتكبته بحقّه منذ ما قبل الإستقلال، ولو كان الحال كذلك لما كان أقام علاقات سياسية وديبلوماسية معها. لهذا، فليس على أي طرف داخلي أن يقوم بحماية هذه العلاقة عن طريق رفع أعلام تركية في الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية، وكأنّه يريد التأكيد على أنّ هذه المجازر لم تُرتكب بحقّ الأرمن، أو أنّهم يقومون بتضخيم الأمر، كما أعداد الشهداء.

حتى الآن، اعترفت دول خارجية عدّة بالإبادة الجماعية، والولايات المتحدة من بينها طبعاً، غير أنّها لا تزال تتحفّظ على عبارة «إبادة» كونها تُزعج الدولة التركية، ولأنّ لأميركا مصالح عدّة في المنطقة تحتاج فيها الى مساعدة أنقرة. ولهذا تبقى بعض الولايات الاميركية تتردّد في الإعتراف بهذه الإبادة، كما بمطالبة تركيا بذلك، فضلاً عن دفع التعويضات، الأمر الذي يطرح تساؤلات عدّة حول مدى تمكّن تركيا من محو الوقائع التاريخية، أو الضغط سياسياً على بعض الدول الكبرى بهدف قلب الحقائق.

ولأنّه «لا يموت حقّ وراءه مُطالب»، فإنّ الأوساط عينها، لا تخشى من أن تموت قضية الشعب الأرمني رغم النكران التركي، وطمسه لمعالم المجزرة الجماعية. فالأرمن ليسوا من هواة نبش القبور، وهم لا «يفترون» بالتالي على الدولة التركية، إلاّ أنّهم يُطالبون بالعدالة الإجتماعية والإنسانية، وبوعي العالم والإعتراف بالظلم الذي لحق بهم، بدلاً من التزام الصمت الذي طال مئة عام. وإنّ ذاكرتهم الجماعية هي التي تجعلهم لا ينسون ما حصل لأجدادهم وآبائهم، والجرائم التي حصلت بحقّهم باسم الدين، فيما لم تحصل أي معاقبة للمجرمين. كما أنّ المدافن الجماعية في دير زور ومرقدة ورأس العين والصحراء السورية، وفي أضنا وكيليكيا وبعض المناطق الأرمنية المحتلّة، لا تزال خير شاهد على حصول هذه المجازر التي لا تزال الدولة التركية تنكرها وترفض الإعتراف بها.

وتقول الأوساط بأنّه في مئوية إبادة الأرمن، التي وصفها البابا فرنسيس بأنّها «إبادة القرن العشرين»، على تركيا «أن تعترف بها وتعتذر وتدفع التعويضات»، لأنّه ليس أمامها سوى القيام بذلك، فنكرانها للحقيقة لا يمكن أن يستمر ولن يفيدها في شيء، لا سيما مع تعرّض دول المنطقة لإبادات جماعية جديدة من قبل التنظيمات التكفيرية مثل «داعش» و«جبهة النصرة». فهذه التنظيمات تُنفّذ إعداماتها أيضاً على أساس طائفي، لكنه لا يطال المسيحيين فقط، بل الشيعة والسنّة من غير المتوافقين معها. فكما أرادت تركيا أن توسّع دولتها وتزيل أرمينيا من طريقها، يقوم التكفيريون اليوم بالتوسّع هنا وهناك من أجل إقامة دولتهم الإسلامية، على ما يُسمّونها. ولكن عليهم أن يعتبروا من تجربة تركيا الفاشلة رغم تنفيذها للإبادة الجماعية التي لا تزال تنكر قيامها بها.

(الديار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى