مقالات مختارة

سياسة الولايات المتحدة حيال التهديدات المزدوجة للدول العربية روبرت ساتلوف

 

3 نيسان/أبريل 2015

هذه نسخة معدّلة من عرض قُدِّم في منتدى سياسي في معهد واشنطن يوم الأربعاء 1 نيسان/أبريل، 2015، قبل يوم واحد من الإعلان عن اتفاق حول “المعايير الأساسية” للاتفاق النووي الإيراني.

لا تعتبر الحروب الدامية والوحشية بين الدول العربية أو بين المسلمين جديدة في الشرق الأوسط، لا بل على العكس أصبحت وللأسف تشكّل القاعدة في هذه المنطقة. وفي الواقع تُظهر المقارنة التاريخيّة أن العدد الإجمالي للقتلى من كافة الأطراف خلال تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي – حوالي 125,000 شخص – يعادل ما يقرب من عدد القتلى في الحرب الأهلية اليمنية في الستينيات عندما تدخّلت مصر للمرة الأخيرة في تلك البلاد؛ ونصف عدد القتلى في الصراع السوري منذ آذار/مارس 2011؛ وعُشر عدد القتلى في الحرب العراقية – الإيرانية.

وعلى الرغم من هذا التاريخ المحزن، فإن الوضع الإقليمي الحالي لم يسبق له مثيل. إذ لا يتعلّق الأمر فقط بعدد الصراعات أو نطاقها أو طبيعتها المتداخلة بل بهدفها، الذي هو في الواقع نظام الدولة العربية. وعلى الرغم من كون هذا النظام غير عادل وفوضوي ودموي ومستبد في غالب الأحيان غير أنّه يبقى نظام دولة.

ويواجه النظام العربي تهديدَيْن هما إيران و تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). ويهدف تنظيم «داعش»، المعروف أيضاً باسم «الدولة الإسلامية»، إلى إزالة الحدود بينما تريد إيران – الجمهورية الإسلامية – إنشاء المستعمرات. وتختلف التهديدات ولكنّ الدمار الذي يصيب نظام الدولة مماثل. ويسري هذا التهديد على جميع الدول العربية تقريباً بدءاً من شمال أفريقيا وصولاً إلى بلاد الشام فالخليج.

دور الولايات المتحدة وغيابها

من هنا، ينبغي أن يكون للولايات المتحدة دوراً تلعبه في هذه المعركة. فقد ساهمت هذه الأخيرة إلى حد كبير في وضع قواعد نظام الدولة الذي تزدهر فيه. حتى إن الأمر ينطبق على منطقة الشرق الأوسط الأكثر حصانة ضد القيم الأمريكية، ولكنها أيضاً المنطقة التي أحسنت فيها الولايات المتحدة صنعاً بشكلٍ معقول خلال نصف القرن الماضي بتأمين مصالحها الأساسية الأخرى. وعلى الرغم من جميع مشاكل الشرق الأوسط تبقى مصلحة الولايات المتحدة كبيرة في بقاء هذا النظام.

بالإضافة إلى ذلك، لا يؤدي التصوّر الإقليمي للانسحاب الأمريكي من المنطقة سوى إلى تفاقم الفوضى وعدم اليقين على الصعيد المحلي. وفي حين تشكّل قضية الإنسحاب الأمريكي موضع نقاش محتدم في واشنطن، إلا إن الحكم واضحاً في الشرق الأوسط حول هذا الموضوع، إذ تعمل المنطقة في الواقع كالسوق، فهي تدرك ما ترى وتحتسب الأمور وفقاً لذلك.

وتشكّل أحداث الأسبوعين الماضيين أفضل مثال على ذلك: ففي أعقاب إعادة إنتخاب رئيس وزراء إسرائيل اليميني بعد أن أعلن بأنه لن تُقام دولة فلسطينية خلال فترة رئاسته للوزارة، شكّل القادة العرب أقوى تحالف عسكري منذ حرب 1967. ولكن بدلاً من التوجّه نحو القدس، هاجم التحالف قوات الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. إن ذلك يوضح الأولويات والدوافع في الشرق الأوسط على أفضل وجه.

ومع ذلك، لا تتفق كافة الدول العربية على طبيعة التهديد. وقد ظهر ذلك جليّاً على سبيل المثال في المناظرة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل خلال القمة العربية التي انعقدت الشهر الماضي في القاهرة. فقد اختلفا علانية بسبب رسالة خطية وجّهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مؤتمر القمة يذكر فيها الدور الذي يمكن أن تؤديه روسيا في المساعدة على فرض الاستقرار في الشرق الأوسط. ولا بد من الإشارة إلى أن خلافهما الفعلي لم يكن حول روسيا بل حول أفضل طريقة لإنقاذ “الدولة العربية” المحاصرة. فالسيسي قد يتقبّل بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم والتهديدات الإيرانية وكافة الأمور الأخرى خوفاً من أن يكون تنظيم «الدولة الإسلامية» هو البديل. بينما يرى السعوديون أن إيران هي التي تدعم الأسد، تماماً كما يرون إيران تدعم للحوثيين، ويرفضون أي اقتراح للتوافق مع الأسد. ولكن في الصميم، يعلم كلاهما أنّ الدولة – وربما دولتيهما – في مأزق.

وبالعودة الى “اتفاقية الدفاع العربي المشتركة” لعام 1950، ناقش العرب فكرة التحالفات العسكرية لأكثر من نصف قرن ولكن المناقشات بمعظمها كانت من دون جدوى. ونظراً لخطورة الوضع الذي يواجه الدول في جميع أنحاء المنطقة، قد يدفعهم الخوف إلى التحرّك. وبالفعل، شهدت الأشهر الأخيرة عمليات عربية عسكرية بعيدة المدى أكثر من أيّ وقت في التاريخ الحديث، ونذكر على سبيل المثال عمليات القوات الجويّة الإماراتية في ليبيا وعمليات القوات البحرية المصرية في جنوب البحر الأحمر. وبما أنّ القدرات مقيّدة، من المرجح أن تعمل الدول العربية على الهامش – كما هو الحال في اليمن، وربما في ليبيا – بدلاً من التحرّك في سوريا والعراق اللتان تشكلان قلب المنطقة العربية. ولكن حتى هناك، لا ينبغي استبعاد هذا الإحتمال.

سياسة “الأصدقاء الأعداء المزدوجة

قد ينظر البعض في واشنطن إلى فكرة أنّ العرب يتحركون بنفسهم ببعض من الرضا الحزين. فهذا يعني، وفقاً للبعض، أنّ الولايات المتحدة قد حققت إنجازاً كبيراً إذ أصبح بإمكانها إبقاء قواتها بعيدة والحد من تعرّضها للخطر. وإذا استطاعت الولايات المتحدة خلال العمليات الدبلوماسية المناورة في المنطقة للتوصل إلى موازنة في القوى بين السنة والشيعة، تكون قد حقّقت إنجازاً أكبر شرط عدم استخدام سياسة “الركائز المزدوجة” أو سياسة “الإحتواء المزدوج” بل اتباع سياسة “الأصدقاء الأعداء المزدوجة”، مع تحول حلفاء واشنطن العرب السابقين إلى خصوم وتحول خصومها السابقين الإيرانيين إلى حلفاء بينما تؤدي الولايات المتحدة الدور القائم على فرض التوازن الحساس بين هذه الأوضاع.

ولسوء الحظ يعتبر هذا التحليل وهميّاً. فلا يمكن إعتبار انسحاب قوات العمليات الخاصة الأمريكية بشكل قسري ومتسرّع من اليمن في الشهر الماضي وفقدان القاعدة الجوية هناك على أنه مقدمة لنجاح جديد، أو تطبيقاً ناجحاً لموازنة استراتيجية، والأمر مماثل بالنسبة إلى القوة العسكرية الإيرانية في العراق وللتقييم الزائف حول بقاء الأسد في السلطة.

الزاوية الإسرائيلية

مع نشوب النزاعات على عدد كبير من الجبهات، تجدر الإشارة إلى أنّ الإدارة الأمريكية قد ركزت الكثير من طاقتها على مدى الأسبوعين الماضيين على مواجهة إعادة انتخاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وليس هناك شك أنّه في الجولة الأخيرة من الانتخابات قدّم نتنياهو للإدارة الأمريكية ذخيرة قوية من خلال تصريحاته التي سيتوجب عليه قبل كل شيء، أن يواجهها في محكمة الرأي العام الإسرائيلي. ولكن مع ارتفاع نسبة مشاركة الناخبين العرب فضلاً عن التمثيل العربي في الكنيست بشكل غير مسبوق، وتوجّه عدد أكبر من الإسرائيليين إلى صناديق الاقتراع خلال أكثر من خمسة عشر عاماً – بمعدل أعلى بنحو 20 في المائة من معدل الناخبين المؤهلين في الولايات المتحدة – فمن اللافت للملاحظة أن تشكّك الإدارة الأمريكية في صحة الديمقراطية الإسرائيلية. وقد عارضت واشنطن تاريخياً، بعض سياسات إسرائيل ولكنّها لم تشكك أبداً بديمقراطيّتها، وهذه كانت القاعدة الأساسيّة للعلاقة بين البلدين على مدى أكثر من ستين عاماً.

ومن ناحية تصريح نتنياهو حول عملية السلام يمكن للمرء أن يناقش بصورة مشروعة ما إذا كان تصريحه تحليليّاً أو توجيهيّاً، ولكن من الصعب النفي بأنه كان يشير إلى الوضع الراهن دون أن يتخلى عن إمكانية التغيير في المستقبل. وعلى أي حال، جاءت ملاحظته في خضم الحملة الانتخابية وعمل جاهداً على توضيح هذا البيان في الأيام التالية.

قد يعتقد المرء أن الرئيس أوباما سيكون أكثر تفهماً للذين يدلون بتصريحات في اللحظة الاخيرة بهدف استقطاب بعض الناخبين. فكما صرح بنفسه في المناظرة الرئاسية النهائية عام 2012، رداً على سؤال حول عناصر الاتفاق المستقبلي بشأن برنامج إيران النووي حيث قال: “هدفنا هو حث إيران على الإعتراف بأنها تحتاج إلى التخلي عن برنامجها النووي والالتزام بقرارات الأمم المتحدة. المتخذة سابقاً.. ونأمل أن تتخذ قيادتها القرار الصحيح، ولكنّنا لن نوافق سوى على تخلّيها عن برنامجها النووي. وهذا أمر واضح جدّاً“.

وسرعان ما اعتبر المفاوضون الأمريكيون موقف الرئيس “متشدداً” و”غير قابل للتحقيق”، ويعتبر البيت الأبيض اليوم مناصري موقف الرئيس في عام 2012 على أنّهم دعاة حرب.

ولا تكمن النقطة الرئيسية هنا في انتقاد سياسة إيران بل في التأكيد على أنّه لا بد من التركيز على ما هو أعمق في رد الإدارة الأمريكية المعادي لنتنياهو. وعندما أوضح رئيس الوزراء تصريحاته، كان بإمكان الإدارة الأمريكية القول: “شكراً على التوضيح، نحن نتطلع قدماً إلى السياسات التي تعكس هذا الالتزام المتجدد في التوصّل إلى حل الدولتين”. ولكن عوضاً عن ذلك قالت الإدارة إنّها لا زالت لا تثق بنتنياهو وإنها تدرس الصيغ الدبلوماسية البديلة، كإصدار قرار في مجلس الأمن الدولي لتعزيز قضيتها.

هل الهدف من ذلك هو جعل إسرائيل تدفع ثمن معارضتها للجوانب الرئيسية للسياسة الخارجية للإدارة الأمريكية ؟ هل هو الحد من قدرة إسرائيل على التأثير في النقاش الداخلي في الولايات المتحدة فيما يخصّ صفقة إيران؟ هل هو التعبير عن استياء شخصي على الرغم من احتجاجات الرئيس؟ لا جدوى من تحليل نفسي لهذا الموقف. فكلّ ما نعرفه هو أنّ ابتعاد الإدارة الأمريكية المتعمّد عن إسرائيل لا يؤدي سوى إلى تعزيز التصوّر الشائع القائم في المنطقة بأنّ حلفاء الولايات المتحدة هم الآن لوحدهم.

البقاء على تواصل

لا شكّ في أنّ هيكل العلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط لا يزال سليماً – أي المساعدات العسكرية، والتعاون الاستخباراتي، وأوجه العلاقة الأخرى. ويسري هذا الأمر على العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبين الولايات المتحدة ومصر، وغيرها من العلاقات الثنائية. ولكنّ طبيعة هذه العلاقات ونوعيتها – أي ما يحوّلها إلى شراكات وليس مجرد معاملات تجارية – قد تزعزعت.

إن قراءة ما ورد في نهاية مكالمة الرئيس أوباما الهاتفية مع الرئيس السيسي يشير إلى ذلك، حيث أبلغ الرئيس الأمريكي الرئيس المصري عن رفع الحظر عن شحنات الأسلحة. وجاء في المحادثة: “اتفق الزعيمان على البقاء على اتصال في الأسابيع والأشهر المقبلة”. ولم يُذكر في تلك المكالمة الهاتفية “أنهما سيظلان على اتصال وثيق”، ولا “أنهما سينسقان من خلال ممثلين شخصيين لمناقشة المخاوف الاستراتيجية المشتركة.” بل ذُكر ببساطة أنهما “سيبقيان على اتصال”. لقد اكتفت الولايات المتحدة بإعطاء وعد بـ”البقاء على اتصال” في تلك المكالمة الهاتفية – التي جاءت بعد أربعة أيام فقط من الذكرى السنوية لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، والتي كان من المفترض أن تفتح صفحة جديدة في العلاقة الأمريكية مع القائد العربي الذي يقود الحملة الداعية إلى تشكيل ائتلاف عسكري إقليمي جديد بين الدول العربية. ويدوّي صدى هذه الكلمات الثلاث أعلى من أي صوت.

روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى