مقالات مختارة

الحرب العالمية ضدّ الإرهاب أطرافها دول وشعوب… د. عصام نعمان

 

ما من حرب في تاريخ البشرية تستحق صفة «العالمية» مثل الحرب المعاصرة ضد الإرهاب. لا الحرب العالمية الأولى 1914-1918 التي اقتصرت أطرافها المحاربة، باستثناء الولايات المتحدة الأميركية، على دول أوروبية. ولا الحرب العالمية الثانية 1939-1945 التي كانت أطرافها المحاربة في مبتدئها أوروبية فقط إلى أن انضمت إليها لاحقاً الولايات المتحدة وكندا واليابان والصين.

في الحرب المعاصرة ضد الإرهاب، ثمة أكثر من 60 دولة تشارك، ميدانياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً، ضد تنظيم «داعش» الدولة الإسلامية في العراق والشام بما هو أكبر التنظيمات الإرهابية وأقواها وأوسعها انتشاراً، والمعترف به أكثر من غيره كقائد أو موجّه للتنظيمات المماثلة في شتى أنحاء العالم.

إضافة إلى صفة العالمية والشمولية، تتصف الحرب ضد الإرهاب بجملة «مزايا» لافتة: تتوزع أطرافها المحاربة على قارات العالم الخمس، وتنتمي سياسياً وثقافياً إلى إيديولوجيات وتحالفات وتكتلات اقتصادية متعددة، وتتألف شعوبها من أعراق وقوميات وأديان وألوان شتى وتحارب جيوشها وتنظيماتها المسلحة في البر والجو والبحر وعلى المواقع الالكترونية وتشارك فيها حكومات وجيوش نظامية كما شعوب من خلال تنظيمات أهلية، مسلحة ومدنية، ويجرى استخدام الأديان بمختلف مذاهبها ومشاربها وأدوار مريديها وأنصارها في المجهود الحربي، الميداني والسياسي والإعلامي، وتُخصص لها موازنات واعتمادات مالية ضخمة مصدرها موارد حكومية رسمية كما غنائم حروب وعائدات نفط وغاز بما جرى الاستيلاء عليه بالعنف وتسويقه باتفاقات وصفقات غير شرعية مع حكومات «مارقة» وهيئات ومنظمات غير حكومية متواطئة.

تبدو الحرب العالمية ضد الإرهاب متعثرة ومديدة ومتوحشة. لماذا؟

هي متعثرة لأن لأطرافها الحكومية كما الإرهابية مصالح تبتغي حمايتها وتعظيمها ومخططات وسياسات تريد إمرارها بموازاة الحرب على الإرهاب أو عبرها ما يؤدي إلى حصول احتكاكات وحتى صدامات فيما بينها تنعكس سلباً على إدارة الحرب.

لنأخذ الولايات المتحدة مثلاً، إنها تريد احتواء «داعش» في حربها الجوية عليه في سورية من دون تمكين الحكومة في دمشق من الإفادة منها لأن لواشنطن حليفين لهما أغراض ومصالح مغايرة: المعارضة السورية المسلحة من جهة وتركيا من جهة أخرى.

كذلك الأمر في العراق. قد تكون الولايات المتحدة جادة في محاربة «داعش» المنخرط في حرب ضروس ضد حكومة بغداد، لكنها حريصة على عدم سحقه مخافةَ أن يؤدي ذلك إلى تقوية جماعات وقوى في العراق تتطلع إلى منع حكومة كردستان من قضم محافظة كركوك الغنية بالنفط. كذلك تحرص واشنطن على عدم سحق «داعش» لئلّا تقوى حكومة كردستان إلى درجة تستقوي معها على حكومة بغداد، فتقضم محافظة كركوك وأجزاء من محافظة نينوى الموصل ، أو قد تتوافر لديها أسباب القوة والموارد ما يحملها على إعلان الاستقلال عن العراق، فتستعدي بذلك تركيا وإيران وسورية.

هكذا يتضح أن المصالح والسياسات والمخططات المتضاربة بين أعضاء «التحالف الدولي ضد الإرهاب» تتسبب في تعثّر إدارة الحرب ضد «داعش» وأخواته، وتتطلب تالياً تمديد زمن المواجهة لضمان استكمال الأهداف المرتجاة.

كذلك تتصف الحرب العالمية ضدّ الإرهاب باعتماد «داعش» وأخواته إدارة التوحش في خوضها، ما أدى إلى إلحاق ضحايا وخسائر وأضرار هائلة في صفوف المدنيين الأبرياء ولا سيما النساء والأطفال والشيوخ. صحيح أن أطراف «التحالف الدولي» تمتلك من الأسلحة الفتاكة ما يمكّنها من أن تردّ لـِ»داعش» الصاع صاعين، لكنها لا تستطيع الفكاك من أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة واتفاقات جنيف الأربعة، الأمر الذي يكرهها على الاقتصاد في استعمال العنف الشديد المخالف لأحكام تلك المعاهدات والمواثيق.

كل ذلك لا يغيب عن ذهن قادة «داعش» والمسؤولين عن إدارة التوحش في صفوفه وممارسة العنف الأعمى ضد الجيوش النظامية كما ضد الشعوب، ما أدى ويؤدي إلى إلحاق بالغ الأذى والأضرار بالعراقيين المهجّرين داخل بلادهم أو المهاجرين إلى خارجها الذين لا يقلّ عددهم عن 5 ملايين. وفي سورية، لا يقل عدد المهاجرين من مواطنيها إلى لبنان والأردن وتركيا ومصر عن 5 ملايين أيضاً. هذا الانقلاب الديموغرافي الهائل سينعكس سياسياً واقتصادياً على دول الجوار ويتسبّب بالضرورة بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية.

من كل هذه الواقعات والظاهرات يمكن الاستنتاج أن الحرب العالمية المعاصرة ضد الإرهاب ستكون أقسى الحروب في تاريخ البشرية، وأن من شأنها أن تؤدي إلى إحداث تغييرات واسعة في العلاقات الدولية وفي القانون الدولي، وأن خرائط سياسية جديدة ستنشأ عنها ما يؤدي بالضرورة إلى ظهور دول جديدة وأنظمة حكم جديدة وبالتالي نظام عالمي جديد.

على مفترق التطورات التاريخية الكبرى في عالمنا المعاصر، يقتضي أن تعي القوى الحية في الأمة ما ينتظرها من تحديات، وأن تُعمل الفكر في ما يمكن أن ينشأ عن الحرب العالمية المعاصرة ضد الإرهاب من متغيّرات وظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية، وأن تستجيب لها برسم سيناريوهات لمواجهتها بما يؤمّن للعرب في دولهم ومجتمعاتهم الأمن القومي والاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية والظروف الآمنة اللازمة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى