مقالات مختارة

‘تجنب المواجهة غير المنسقة’ في سوريا: حل لاحتواء «داعش» وليس هزيمته أندرو جيه. تابلر

 

 

صحيح أن سياسة واشنطن الحديثة المنشأ، التي تقضي “بتجنب المواجهة غير المنسقة” مع نظام بشار الأسد في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، قد لا تشكل تحالفاً رسميّاً، لكنها من المحتمل أن تسبب مشاكل جدية. فالموافقة الضمنية للنظام على تجنب استهداف طائرات الائتلاف، بالإضافة إلى التأخير المطول في برنامج التدريب والتجهيز الذي تنفذه إدارة الرئيس الأمريكي أوباما للمعارضة السورية ورسالة الرئيس في تشرين الأول/أكتوبر 2014 للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية حول التعاون ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، جميعها عوامل تولد انطباعات شائعة بأن الولايات المتحدة تتوجه نحو حلف فعلي مع الأسد وطهران ضد الجهاديين. وإذا استمرت واشنطن بهذه السياسة على ما هي عليه، لن تتمكن سوى من احتواء تنظيم «داعش» وليس “هزيمته” أو “القضاء عليه” كما دعا الرئيس أوباما. والأسوأ من ذلك، هو أن هذه السياسة قد تؤدي إلى مأزق دموي من التطرف في سوريا بين قوات «حزب الله» التي تحظى بالدعم الإيراني والجهاديين، مما يزيد من التهديدات على مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة .

التوصل إلى تجنب المواجهة غير المنسقة

على أثر اندلاع شرارة الثورة السورية في عام 2011، تخلت الولايات المتحدة عن سياسة “التعاون البناء” التي كانت تتبعها مع النظام السوري ودعت الأسد إلى “التنحي”. ولكن مع تطور النزاع، واتخاذ الرئيس أوباما قرار عدم تسليح الثوار بشكل حاسم وعدم تطبيقه لـ”خطوطه الحمراء” على الهجمات الكيميائية التي شنها النظام، شغل الجهاديون – من أمثال تنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة» التي تدور في فلك تنظيم «القاعدة» – المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة المعارضة بسرعة، مكتسبين بذلك عمقاً استراتيجيّاً لشنّ الهجمات ثانية في العراق. إلا أن الحملة الشعواء التي شنها «داعش» على الموصل، وانهيار قوات الأمن العراقية المدربة من قبل الولايات المتحدة، وإعدام الرهينتين الأمريكيتين، عوامل دفعت بالرئيس أوباما إلى الدعوة للقضاء على الجماعة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، أطلق الائتلاف الدولي بقيادة الولايات المتحدة مقاربة ذات شقّين تعتمد أولاً على القيام بعمليات قصف وثانياً على تسليح قوى مختارة مضادة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا.وبهدف تنفيذ الشق الأول من هذه الاستراتيجية، وضعت واشنطن سياسة بواسطة بغداد أشار إليها مسؤول أمريكي لم يُذكر اسمه في مقال نُشر في صحيفة “واشنطن بوست” في الأول من كانون الأول/ ديسمبر بالمصطلح “تجنب المواجهة غير المنسقة”. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، مباشرةً قبل توسيع الضربات الجوية الأمريكية إلى سوريا، أرسلت الحكومة العراقية ذات القيادة الشيعية المتحالفة مع إيران مستشار الأمن الوطني فالح الفياض لمقابلة الأسد. وفي حين أنه لم يتم الكشف عن تفاصيل الاجتماع، إلا أن فحواه كان واضحاً – ومنذ ذلك الحين نفذ الائتلاف أكثر من 900 طلعة جوية حلقت فوق سوريا دون أن تتعرّض لها قوات النظام.

ويقضي الشق الثاني من الاستراتيجية بتسليح فاعلين على مستوى الجهات الحكومية الفرعية، أبرزهم قوات اليبشمركة في العراق والمعارضة المعتدلة في سوريا. وتتم المساندة الأمريكية للبيشمركة بإذن من الحكومة العراقية، بيد أن العلاقة أكثر تعقيداً في سوريا حيث يجب تدريب المعارضة وتجهيزها من دون موافقة الحكومة المضيفة “الشرعية”. ومع أن الجيش الأمريكي لا يحبذ هذا الإجراء إلا أنه سبق أن اضطر إلى اللجوء إليه كما شاهدنا مع قوات البيشمركة خلال “عملية المراقبة الشمالية” في التسعينيات. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن الثوار السوريين أظهروا اتساقاً سياسياً أقل من ذلك الذي أعرب عنه نظراؤهم الأكراد، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول الجهة التي يُفترض أن تكون مسؤولة عن القوى التي ستحظى بتدريب أمريكي.

وفي حين نجحت هذه الاستراتيجية حتى الآن في العراق، بيد أن لشقيها أهداف متعارضة في سوريا. فأثناء ضرب أهداف «داعش» تفضل القوات الأمريكية أن تحلق طائراتها فوق الأراضي السورية من دون أن تتعرض لنيران النظام. لكن من أجل هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» بالفعل، على الولايات المتحدة وحلفائها أن تدرب قوة معارضة وتجهزها للسيطرة على المناطق ذات الأغلبية السنية التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» حاليّاً الأمر الذي يثير استياء الأسد.

للأسف، أعاق التصور الشعبي للشق الأول من الاستراتيجية شقها الثاني بشكل كبير. فحين توسعت الضربات الأمريكية التي تستهدف تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل غير متوقع في أيلول/سبتمبر لتشمل «جبهة النصرة» في محافظة إدلب الغربية، وجّهت هذه الأخيرة هجماتها على جماعات «الجيش السوري الحر» المدعومة من الغرب في منطقتها، وشمل ذلك هجوماً كاسحاً على «جبهة ثوار سوريا» و «حركة حزم». وكانت الجماعات المهزومة مسلحة بصواريخ “تاو” الأمريكية وبالتالي تعتبر إلى حد كبير جزءاً من برنامج الدعم الأمريكي غير العلني. ومع أن بعض هذه القوات عاد وجمع قواه، فإن حملة الضربات الجوية الأمريكية – بالإضافة إلى تصريحات الرئيس أوباما في تشرين الثاني/نوفمبر بأن واشنطن لا تناقش بشكل فاعل سبل التخلص من الأسد – كادت على وشك تدمير دعم الثوار للولايات المتحدة الذي يتدهور منذ وقت طويل. وفي الوقت نفسه، فإن القتال بين الأسد والجهاديين يزداد احتداماً.

وصفة للتقسيم واستمرار الفوضى

إن قلب السياسة المتبعة لدعم نظام الأسد ضد «داعش» لن تحل مشاكل واشنطن؛ وناهيك عن نظرة الرأي العام السلبية جداً تجاه مساعدة رئيس، كان قد استخدم السلاح الكيميائي وصواريخ سكود ضد شعبه، يعاني نظام الأسد من شلل مالي وعسكري وبالتالي ليس قادراً على استرجاع المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» الآن وإحكام قبضته عليها. واعتمد استرجاع النظام للأراضي في العام الماضي على عمليات “وقف إطلاق نار” مثيرة للجدل فُرضت بشكلٍ رئيسي على سكان يعيشون تحت الحصار وعلى عمليات عسكرية قامت بها جماعات مسلحة غير نظامية من «قوات الدفاع الوطني» ذات أغلبية علوية إلى جانب الجيش النظامي. وهذا يعني أن المناطق التي سيحاول النظام السيطرة عليها في الأشهر المقبلة ستشهد تدفقاً لقوات تسيطر عليها الأقليات أكثر فأكثر وتكون خاضعة لتوجيه إيراني. وباختصار، إن عودة بشار الأسد لوضعه السابق لن تكون عودة حاكم شرعي يعيد النظام لبلاده بل ستأتي في الأساس نتيجة وجود فيلق إيراني مؤلف من لاعبين أجانب يؤدون دوراً على مستوى الجهات الحكومية الفرعية. وبالتالي إن الجزء القتالي من مسعى طهران لتغيير “الهلال الخصيب” بشكل جذري هو أمر ستستمر القوى السنية في المنطقة بمعارضته وبشكل خاص تركيا ودول الخليج العربي.

من جهة أخرى، إنّ انخراط إيران المباشر والمعمق في محاولة الأسد إخراج نفسه من المأزق السوري قد أدى إلى توريط طهران في مذبحة واسعة النطاق للسنة وقد أطلق حرباً طائفية طغت على العراق وتهدد بالتوسع خارج حدود البلاد. وكانت حملة إيران في سوريا لتبدو منطقية أكثر لو لم يعلب التوزيع الطائفي للسكان دوراً سلبيّاً ضدها للغاية. فالنسيج السوري يتألف بنسبة 75 في المائة من العرب السنة، وهي نسبة تصح في كافة أنحاء الشرق الأوسط تقريباً باستثناء إيران. كما أن المناطق الريفية التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» في سوريا والعراق تتألف من السنة بنسبة عالية تصل إلى 95 في المائة. وتشير هذه النسب إلى أن إيران لن تتمكن من إخضاع السنة من خلال العنف، لا بل قد تجد نفسها في النهاية منخرطة في نزاع مهلِك وصفه العديد بالفعل بأنه “فيتنام إيران“.

أربع خطوات لحل مستدام في سوريا

على الرغم من أنه ليس من المحتمل أن يفرز هذا التوجه “انتصاراً للنظام” إلا أنه قد يدفع الأسد ورعاته الإيرانيين إلى التركيز على الأجزاء التابعة لهم من سوريا الصغرى والالتزام بمعاهدة عدم اعتداء تأتي بحكم الأمر الواقع مع الجهاديين. وقد يساعد ذلك على تجنب سيناريو “فيتنام إيران”، لكنه قد يؤدي إلى أسوأ السيناريوهات بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها وهو تشبث كل من الأسد و تنظيم «الدولة الإسلامية» بأراضيهما ربما بشكل نهائي. ولتجنب هذا السيناريو والسعي إلى تحقيق المصالح الأمنية الأمريكية في سوريا بشكلٍ أفضل، على واشنطن اعتماد المقاربة التالية:

1-تقبل فكرة أن سوريا ستبقى دولة مقسمة وفاشلة طالما يُسمح للأسد بالبقاء في السلطة – ما يشبه وضع صدام حسين في التسعينيات حين كلفت سياسات النظام هذا الأخير سيطرته على الشمال الكردي. لكن خلافاً لهذا السيناريو، سيشكل استمرار وجود الأسد نقطة جذب قوية للجهاديين ومحركاً رئيسيّاً للتوتر السني الشيعي.

2- لا ينبغي تخفيف الضغط على الأسد. فعوضاً عن السماح للنظام بتعزيز قوته، على واشنطن إضعاف كل من الأسد و «داعش» من خلال تشجيع الصراع بينهما لإضعاف القوات الإيرانية الأجنبية والجهاديين في الوقت نفسه. وكثيراً ما يتفاخر الأسد بمحاربة الإرهاب، لذا يجب على الولايات المتحدة ترك الأمر على عاتقه وإلقاء مسؤولية تنظيم «الدولة الإسلامية» على الرئييس السوري مما سيضعفه ويضعف القوى الإيرانية في النهاية. وتشمل المسائل الرئيسية التي يجب على واشنطن أخذها بعين الاعتبار: متى تصعِّد الضربات الجوية أو تخفِّف منها ليس فقط ضد «داعش» بل أيضاً ضد قوات النظام لاسيما إذا نفّذ الأسد التهديد الذي أطلقه في 20 كانون الثاني/يناير حين قال لمجلة “فورين أفيرز” بأن النظام سيهاجم أياً من قوات المعارضة المعتدلة المدربة من قبل الولايات المتحدة التي تدخل سوريا. عندها فقط ستشعر دمشق وطهران بالضغط لتقديم تنازلات كبيرة.

3- التركيز على مساعدة المعارضة المعتدلة على رص صفوفها ضد الجهاديين والنظام على حد سواء، بالإضافة إلى زيادة المساعدات الإنسانية بشكل بارز للنازحين وبذل مجهود أكبر بكثير لحماية المدنيين. بالطبع لا يمكن للولايات المتحدة أن تنظم وتقود المعارضة كلها، لكن يمكنها أن تدعم أي فصيل يسيطر على مناطق استعادتها من يد تنظيم «الدولة الإسلامية». إن الطريقة الوحيدة لتحفيز الثوار على القيام بذلك هي تقديم الدعم العلني لموقفهم المبرر ضد بقاء الأسد في السلطة.

4- تطوير استراتيجية لإسقاط الأسد بالطرق الدبلوماسية وإرسال المعلومات والقوة العسكرية/الاقتصادية. فكلما طال بقاؤه طال الانقسام في سوريا. وحين يتم التخلص من الأسد، سيصبح من الممكن لملمة شمل سوريا من جديد.

أندرو تابلر هو باحث مشاركفي برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن. وتشمل مؤلفاته باللغة الانكليزية “انهيار سوريا وكيف بإمكان واشنطن وقفه” (فورين أفيرز، تموز/يوليو – آب/أغسطس 2013) والكتاب الذي صدر عام 2011، “في عرين الأسد: رواية شاهد عيان لمعركة واشنطن مع سوريا“.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى