مقالات مختارة

في رثاء «الربيع العربي» وإحيائه… د. عصام نعمان

 

مع دخول «الربيع العربي» المتهالك سنته الخامسة ونزوع بعض المفكرين والكتّاب إلى رثائه، أرى مقاربة ظاهرته الملتبسة بمنهجية مغايرة قوامها إعادة تعريفه، وبيان أسباب إخفاقه، والتطلع إلى إحيائه في ضوء ذلك كله.

لعلّ التعريف الأصح لـِ«الربيع العربي» أنه مخاض عميق متعدد الجوانب والحوافز والمفاهيم والمفاعيل. وهو، بهذا المعنى، لا يزال يعتمل في مختلف المجتمعات العربية وإنْ كان اعترى وتيرته أخيراً وهن وتعثّر ملحوظان. صحيح أنّ بالإمكان نقد وتقويم مظاهر هذا المخاض وتداعياته ونتائجه المتحققة لغاية الوقت الحاضر، لكن من الصعب إطلاق حكم نهائي عليه قبل اكتمال مساره.

يتوافق فريق كبير من المفكرين والكتّاب على الهدف الرئيس للأفراد والجماعات المشاركين في فعاليات هذا المخاض. إنه تأمين الحرية والكرامة وضرورة رعايتهما وحمايتهما.

لا توافق على أسباب تعثّر جهود المشاركين في مخاض الحرية والكرامة. ثمة فريق يعزو السبب الرئيس إلى تخلّف متجذّر في مجتمعاتنا ناجم عن الأميّة والفقر والمرض، وشيوع المعتقدات الغيبية والعصبيات الدينية والمذهبية، وضحالة الوعي الاجتماعي والوطني، وسيطرة ثقافة الطاعة لأولي الأمر والإذعان لاستبداد السلاطين والحكام.

فريق آخر يعزو السبب الرئيس إلى تجذّر أنظمة الاستبداد التي تعيد إنتاج نفسها بالقمع وتطويع الأفراد والجماعات والحؤول دون انتظامها في هيئات وجمعيات وأحزاب، ما يؤدّي إلى انعدام مشاركة الناس في إدارة حياتهم وحماية حقوقهم، وبالتالي تعطيل قيام دولة القانون والمؤسسات.

وثمة فريق ثالث يعزو السبب الرئيس إلى العامل الخارجي المتمثل بالغزو والاحتلال والتدخلات العسكرية والسياسية الرامية إلى السيطرة والهيمنة والاستغلال السافر والفاجر أو المداور وغير المباشر. ويذكرنا هذا الفريق بمفارقة لافتة دامت ألف سنة حَكَمَ العرب خلالها حكامٌ أجانب بتسميات مختلفة ولأغراض مختلفة وتعمّدوا تظليل هوية الأمة وطمس ثقافتها وربطها بثقافات مغايرة تخدم مصالحهم وترسّخ سيطرتهم.

لا شك في أنّ الأسباب التي أوردها الأفرقاء الثلاثة أسهمت بمقادير متفاوتة في عرقلة مخاض «الربيع العربي» وإجهاض الكثير من إصلاحاته المرتجاة. غير أنّ ثمة عاملين رئيسين أغفلهما هؤلاء الأفرقاء يشكّلان، في رأيي، السمة الأساس لمجتمعاتنا العربية بل البيئة الحاضنة والمولّدة لأسباب إخفاق «الربيع العربي». هذان العاملان الأساسيان هما تركيبة مجتمعاتنا التعددية، والتطورات التكنولوجية التي دخلت مختلف مناحي حياتنا.

تركيبة مجتمعاتنا التعددية حالت دون نشوء جسم اجتماعي متجانس ومتماسك داخل أقطار وطننا الكبير، بل أدّت إلى قيام كيانات متعددة الولاءات وبالتالي متعددة القيادات مع ما يرافقها بالضرورة من أهواء ومصالح وطموحات متعددة ومتصادمة. أليس لافتاً أن الإسلام المتميّز بوحدانية الله الخالق والداعي إلى وحدة المؤمنين به والملتزمين قِيمَه وفروضه لم يُوفَّق إلى توحيد، ولا أقول صهر، القبائل والعشائر في المجتمعات التي ساد فيها؟ ألم تؤدِّ هذه التعددية المتجذّرة إلى إضعاف بنية مجتمعاتنا ما أغرى القوى الخارجية الطامعة بغزوها واحتلالها واستحلاب خيراتها؟ ألم تتسبّب التعددية المرهقة والضعف البنيوي والغزو الخارجي في تعميق التخلف الذي جمّد ولا يزال يجمّد مجتمعاتنا؟

إلى ذلك، وبعد قرون وأجيال من التخلف المقرون بحكم الأجانب والاستبداد ومحدودية النمو والتنمية، فاضت علينا البلدان المتقدمة بإنجازات تكنولوجية اعتمدناها في مختلف مناحي حياتنا، ما أسهم تدريجاً في توسيع مدارك أجيالنا وأتاح للفرد في مجتمعاتنا أن يصبح أكثر قدرة على التعلّم والتكلّم والتدرّب والتواصل والتسلّح والتملّك والتسيّد. باختصار، أصبح الفرد بفضل التكنولوجيا الحديثة الانترنت وثورة المعلوماتية أكثر اقتداراً واستقلالاً وفعالية، الأمر الذي انعكس على تركيبة مجتمعاتنا التعددية فضاعف عدد صنّاع القرار فيها، وبالتالي عرقل توحيد القدرات وتصويب الأهداف وتركيز الجهود في حركة نهضوية فاعلة، بل لعله ساعد في تمكين القوى الخارجية الطامعة من تعميق انقسامات مجتمعاتنا وشرذمتها واستغلال بعض قواها، كالتنظيمات الإسلامية التكفيرية، لخدمة أغراضها الخبيثة. ذلك كله أسهم بدوره في عرقلة مخاض «الربيع العربي» وإجهاض الكثير من الآمال المعلقة على إصلاحاته المرتجاة.

ما السبيل إلى إحياء «الربيع العربي»، بما هو مخاض متعدد الجوانب والحوافز والمفاهيم والمفاعيل، وتصويبه باتجاه بناء جسم اجتماعي متجانس وموحد على مستوى الأمة كما في مختلف أقطارها، منفتح على الحياة والتطور وإنجازات العصر، وقادر على معاودة الإسهام في الإبداع الحضاري؟

الجواب: تنهض بهذا المسار، الطويل نسبياً، القوى الحية في الأمة، وذلك بتخليق ثقافة تحرّرية علمية ومقاوِمة تتصدّى، في إطار استراتيجية مواجهة الاستعمار الصهيوني الأميركي، لمعالجة المسائل والمعضلات الآتية:

أولاً، تركيبة مجتمعاتنا التعددية باعتماد الديمقراطية بما هي نظام الاعتراف بالآخر، وبناء المؤسسات التي تكفل المشاركة العادلة لمختلف مكوّنات المجتمع في سلطات التقرير والتنفيذ، وإرساء حكم القانون في دولة مدنية تكفل احترام حقوق الإنسان جميعاً، ولا سيما الحق في الحرية والاجتماع والتعبير والحياة الكريمة.

ثانياً، التنازع بين الدين والدولة باعتماد قاعدة حياد الدولة المدنية الديمقراطية بين مختلف الأديان والمؤسسات المذهبية، وتكريس حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير.

ثالثاً، التنوّع الديني والاثني والثقافي المكوّن لطبيعة أمتنا باعتماد النظام الاتحادي الفيديرالي الديمقراطي المقترن بسلطة مركزية قوية تتولى مسؤوليات السيادة، والأمن الوطني، والاقتصاد الوطني، والشؤون الخارجية، والعملة الوطنية، والتربية الوطنية الجامعة من جهة، ومن جهة أخرى بسلطات إقليمية في الولايات، المحافظات مسؤولة عن سائر القضايا والشؤون، خصوصاً ذات الطابع المحلي.

وسيكون في مقدور القوى القيادية الحية، خلال التقدّم على مسار معالجة المسائل والمعضلات السالفة الذكر وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، إقامة مؤسسات اتحادية عابرة لدول الأقطار تُسهم تدريجاً في استكمال بناء النموذج السياسي والحضاري المرتجى للأمة ولدولتها الاتحادية الديمقراطية المرتجاة.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى