مقالات مختارة

«خريف البطريرك»: فساد واستبداد محمد نور الدين

 

«بدأنا يومنا بأخبار العملية. لقد اعتقل رئيس تحرير صحيفة زمان أكرم دومانلي ومدير مجموعة صمانيولو التلفزيونية هدايت قره جه. هل حزنت؟ نعم حزنت. لا أجد في العملية عملاً صائباً. ألم تعط العملية الفرصة لصب الزيت على النار وقيامة الدنيا على تركيا؟ هل لاحظ من قاموا بالعملية أنهم يخدمون تلك الصورة عن تركيا؟ هذا أمر لا يفيد سوى في جعلنا مسخرة للعالم. حتى لو لم يعترض أحد على الإمساك بصحافي بهذه الطريقة وسوقه إلى المحكمة، فأنا سأعترض. إن ما حصل ليس صائباً. إن ما حصل يلحق الضرر حتى بالمعركة ضد الكيان الموازي (جماعة فتح الله غولين). إنني بصورة واضحة جداً ودقيقة جداً أريد أن أقول إن اعتقال رئيس تحرير زمان أكرم دومانلي وهدايت قره جه من تلفزيون صمانيولو خطأ، كائناً من فعلها فأنا أعلن اعتراضي».

حتى عبد القادر سيلفي، الكاتب في صحيفة «يني شفق» المعروف بقربه من رئيسي الجمهورية رجب طيب اردوغان والحكومة احمد داود اوغلو والذي كان يمرر الرجلان عبره ما يريدان من تسريبات ومعلومات خاصة إلى الرأي العام، رفع الصوت معترضاً على العملية البوليسية التي حصلت الأحد الماضي، وطالت أكثر من 31 شخصاً معظمهم من الصحافيين، ومعدي البرامج والمسلسلات وعلى رأسهم اكرم دومانلي رئيس تحرير إحدى اكبر الصحف في التركية والأكثر مبيعاً، صحيفة «زمان»، وهدايت قره جه المدير العام لمجموعة «صمانيولو» التلفزيونية.

إنه آخر فصل، وليس الفصل الأخير، من حرب سلطة «حزب العدالة والتنمية» على خصومها، وتحديداً جماعة فتح الله غولين. تلك الحرب التي بدأت مع انتفاضة جيزي – تقسيم في حزيران من العام 2013، وتواصلت مع ظهور فضيحة الفساد في 17 و25 كانون الأول من العام ذاته ولم تنته بعد.

أين يمكن وضع عملية اعتقال الصحافيين الأخيرة؟

١ ــ جاءت العملية قبل ثلاثة أيام من حلول الذكرى السنوية لفضيحة الفساد التي عكست تورط أربعة وزراء من حكومة أردوغان، ومن ثم ظهور شريط يدلّ على تورّط ابنه بلال أيضاً، فضلاً عن غيرهم. وهي الفضيحة التي هزّت صورة اردوغان «النظيف الكفّ» بعدما هزت انتفاضة جيزي ــ تقسيم صورة الزعيم الديموقراطي.

وهما حادثتان أصابتا مقتلاً من صورة النموذج الذي كانت تروج له منظومة حزب العدالة والتنمية. وعندما يكون الفساد والاستبداد سمتي النظام الحاكم وزعيمه، فلن يبقى منه شيء. أدرك أردوغان ذلك، وبدلاً من مراجعة السياسات المتبعة كما يفعل عادة زعماء الدول الديموقراطية لجأ إلى المزيد من سياسة الهروب إلى الأمام والانتقام. الاعتقال يحمل الانتقام في عنوانه الأول.

٢ ــ استبق اردوغان، بعملية الاعتقال الجديدة، الكم الكبير من الكتابات التي كانت ستركز على فضيحة الفساد، ما سيعيد إحياء قضية أراد لها أن تموت. جاءت عملية الاعتقالات محاولة لحرف الأنظار عن القضية الأصلية، أي الفساد، ليتركز الاهتمام الإعلامي الآن على الاعتقالات الجديدة ومسار الأحداث المتعلقة بها. بل إن اردوغان حاول نقل الاهتمام حتى بعيداً عن الداخل، بتصويب سهام نقده لردود فعل الاتحاد الأوروبي على ما جرى.

٣ ــ العنوان الثالث لعملية اعتقال الصحافيين الجديدة أنها تأتي استكمالاً لخطة تصفية ما تبقى من أثر لنفوذ الداعية فتح الله غولين المقيم في الولايات المتحدة، في الدولة وحتى في المجتمع. تصفية نفوذ غولين في الدولة قطع شوطاً كبيراً جداً. لم يعد هناك مبدئياً من موظفين كبار في البوليس والقضاء وسائر المؤسسات يدينون بالولاء له. تطلب الأمر اعتقال الآلاف من الأشخاص وإقالة آلاف أخرين من وظائفهم، ونقل آلاف آخرين من مناصبهم وأماكنهم إلى مناصب أخرى متدنية وأماكن نائية عن مراكز القرار والمدن الكبرى.

طالت العملية عشرات الآلاف من موظفي الشرطة والدرك والقضاء والتعليم. وتطلب الأمر أيضاً تغيير القوانين لكي يتاح تعديل بنية المؤسسات القضائية، واستبدال القضاة المعارضين بآخرين موالين ومطيعين. وهكذا عدلت القوانين لمصلحة السلطة السياسية وسيطرتها وتحكمها. اختفت المسافة بين السلطات، ولم تعد هناك استقلالية للسلطة القضائية، وهذا منافٍ لألف باء الديموقراطية، والتي تقول بالفصل بين السلطات واستقلالياتها.

وبعدما تمّ لأردوغان ذلك انتقل إلى المس بالمؤسسات الإعلامية الخاصة مثل مجموعة «زمان» و»صمانيولو». التهمة جاهزة، وهي أن هؤلاء الصحافيين هم أعضاء في منظمة مسلحة تريد الإطاحة بالحكومة! صدّق أو لا تصدق. هذه هي التهمة الواردة حرفياً في قرار القضاء لاعتقال هؤلاء الصحافيين. وهو شيء يذكر بجملة الاتهامات التي كانت تساق لمنظمة «أرغينيكون»، وانخراط ضباط الجيش فيها لقلب حكومة اردوغان سابقاً، والتي خدمت تصفية نفوذ العسكر في السياسة في العام 2010. لكن القضاء نفسه عمل لاحقاً، وبعد وضع اليد عليه من جانب الحكومة إلى إطلاق سراح كل الضباط المحكوم عليهم في قضية «ارغينيكون» بحجة أن الدلائل لم تكن كافية في حين كان الأمر يتعلق بشراء اردوغان لسكوت الجيش في معركته ضد غولين. سلطة سياسية من أهم أساليبها فبركة التهم هنا وهناك. تماماً مثل فبركة ذرائع حول ضريح سليمان شاه في سوريا لتبرير أي تدخل عسكري هناك.

٤ ــ العنوان الرابع لحملة الاعتقالات يدخل في إطار تعزيز نظام الاستبداد الذي بدأ يتشكل منذ سنوات، وتعاظم شأنه منذ سنتين ويبلغ الآن ذروته. وعملاً بالآية الكريمة «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد»، يمضي اردوغان (هل لاحظ معي القارئ أننا لا نشير إلى رئيس الحكومة احمد داود اوغلو رغم أنه هو رأس وأساس السلطة التنفيذية فيما صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة؟) إلى المزيد من تحويل تركيا إلى دولة بوليسية قمعية خارج أي نظم تحمي الحقوق الأساسية الفردية والجماعية.

وكما جاء هتلر بعملية انتخابية، وانتهى إلى تأسيس أكبر نظام استبدادي وعنصري في العالم، فإن أردوغان يأخذ بتركيا لتكون دولة نموذجاً في الدكتاتورية بعدما كانت نموذجاً يتطلع إليه الحالمون بالجمع بين الإسلام والديموقراطية والإسلام والعلمانية في غابة أنظمة القمع في العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث. الاستبداد لا يولد إلا المزيد منه، ولسان حال اردوغان اليوم «هل من مزيد».

حتى أقرب المقربين إليه، عبد القادر سيلفي، اعترض على حملة الاعتقالات، على الأقل لجهة الشكل (من دون أن يعترض على تصفية خصوم اردوغان لكن بطرق أخرى). لا يؤسس هذا النهج سوى إلى مزيد من العزلة القاتلة بحيث لن يجد «الجنرال من يراسله»، وفقاً لغابرييل غارسيا ماركيز. لكنه «خريف البطريرك» الذي تتساقط أوراقه. والمسألة مسألة وقت لاستكمال حفلة التعرية الكاملة لنموذج يستحضر الماضي ليعيش في أوهامه بدلاً من البناء على ما حققته التجربة العلمانية (على كل سيئاتها في الممارسة التركية)، وتطويرها وإدخال تركيا في نادي الدولة المتقدمة والمعاصرة.

ويجب ألا ينسى اردوغان أن ما تحقق من ايجابيات في التجربة التركية هو من أفضال بعض المكتسبات التي حملها النهج التغريبي لمصطفى كمال أتاتورك، والتي حملتها أيضاً العلاقة مع الاتحاد الأوروبي منذ العام 1963 وحتى الأمس القريب. لذلك فإن دعوة اردوغان الاتحاد الأوروبي لعدم التدخل في الشأن التركي الداخلي تحمل أمرين: الأول تناقض اردوغان مع نفسه، ذلك أن بدء المفاوضات المباشرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي في تشرين الأول العام 2005 إنما أدخل العلاقة بين الطرفين في مرحلة البحث في كل التفاصيل التي تؤدي إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وبمعزل عن نتيجة المفاوضات في النهاية، فإن الشأن التركي الداخلي لم يعد شأناً خالصاً، بل تركياً ــ أوروبياً مشتركاً. والنقاشات بين وفود الجانبين تطال أصغر التفاصيل، حتى في كيفية جمع جلود الذبائح ومواصفات المياه المعبأة في القناني، فكيف إذا كان الأمر يتصل بالأساسيات، مثل الحريات والديموقراطية واستقلال السلطات وتوازنها.

الأمر الثاني هو قول اردوغان إن «الاتحاد الأوروبي يخطئ إذا كان يعتقد أن تركيا ليس من همّ لها سوى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي».

هنا الأمر يتعلق بالذهنية والمشروع والرؤية و»العمق الاستراتيجي» (حسنا لنُدخل هنا اسم احمد داود اوغلو). هنا لا مجال للمزاح أو للعب أو التلاعب. إما أن يكون الاتحاد الأوروبي هدفاً استراتيجياً لتركيا أو عليها أن تعلن تخليها عن تبني هذا المشروع. عليها أن تعلن عن ذلك بصراحة. فالاتحاد الأوروبي ليس مجرد إطار سياسي أو تكتل اقتصادي. بل هو مشروع حضاري تحكمه ذهنيات تطال الأساسيات الرئيسية من حياة الفرد والمجتمع، عبر معايير ترجمت الى قوانين ودساتير أنتجت هذا الكائن الذي اسمه الاتحاد الأوروبي. معايير اسمها «معايير كوبنهاغن» وليس «معايير أنقرة»، كما يريد أردوغان. معايير تتصل بالحريات السياسية والصحافية والفردية والعلمانية وحقوق الأقليات والمواطنة الكاملة، والفصل بين السلطات. وهذه كلها تحتاج إلى نضال وجهد وإخلاص ونية صادقة.

أنا أعتقد أن أردوغان بقوله إن لا همّ عنده اسمه اتحاد أوروبي، كان صادقاً مع نفسه حتى النهاية ومئة في المئة. وأنا أصفق له لهذه الصراحة. فهو في الأساس لا يريد، لا الاتحاد الأوروبي ولا منظمة شنغهاي، ولا أن يكون جزءاً من أي تكتل إقليمي أو دولي، لأن مشروع أردوغان الأساسي الذي لا يزال يحلم به، هو «العثمانية الجديدة» التي لا تنسجم من قريب أو بعيد مع أي معيار أوروبي، ولا مع أي معيار حضاري. وهنا بالضبط مكمن الخطر على أنقرة، وعلى جيرانها من تركيا نفسها. فنظام «حزب العدالة والتنمية» بات تهديداً للسلم والاستقرار في تركيا نفسها. وتركيا، في ظل أردوغان باتت تهديداً للاستقرار والسلم في المنطقة وكل دول الجوار الإقليمية. وهذا يوجب تصعيد القوى الديموقراطية والعلمانية في تركيا والمنطقة من نضالها لصد خطر «الهواء الأصفر» الجديد الذي، إن لم يُستأصل، سيحرق روما من فوق ومن تحت.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى