مقالات مختارة

الاضطرابات الأميركية: أسباب ودلالات حميدي العبدالله

 

 

تشهد المدن الأميركية تظاهرات ومواجهات بين جماهير غاضبة وبين عناصر الشرطة وصلت في إحدى الولايات إلى حدّ التلويح بالاستعانة بالجيش الأميركي للسيطرة على الموقف، وعمّت الاضطرابات غالبية الولايات الأميركية، بما في ذلك نيويورك.

في تاريخ الولايات المتحدة الكثير من هذه الاضطرابات، أيّ أنها لا تحدث للمرة الأولى، ولكن في كلّ مرة تكون لها أسباب، بعضها مشترك، وبعضها يفسّر حالة بذاتها. المشترك في كلّ الاضطرابات التي شهدتها الولايات المتحدة هو السياسة العنصرية المعتمدة من قبل الجهات الرسمية والتي تنعكس باستمرار باعتداءات دموية من قبل عناصر الشرطة ضدّ المواطنين السود.

في البداية، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت المواجهات والاضطرابات حالة يومية ودائمة، لأنّ سياسة التمييز العنصري كانت تشمل جميع جوانب الحياة، لاحقاً عندما تخلّت الدولة الأميركية رسمياً عن سياسة التمييز العنصري ورضخت لضغوط حركة التحرّر التي قادها السود وقدّموا الكثير من التضحيات في سبيلها، اقتصرت السياسات العنصرية على تصرّفات بعض المتطرفين البيض، وعلى ممارسات الشرطة ضدّ الشباب الزنجي، وقتل بعضهم بذرائع مختلفة، ولكن ردود الفعل على هذه الحوادث كانت دائماً ردوداً موضعية وظرفية، ونادراً ما تحوّلت إلى مواجهات أو هبّات شعبية تشمل كلّ أنحاء الولايات المتحدة.

لكن المواجهات الحالية المستمرة في المدن الأميركية تأتي في سياق مختلف، وبالتالي من غير المستبعد أن تتواصل، وربما تتصاعد، وقد تترك آثاراً عميقة على الأوضاع السياسية في الولايات المتحدة، ومن أبرز ما يميّز هذا السياق:

أولاً، الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة والتي تعتبر من أطول الأزمات التي مرّ بها الاقتصاد الأميركي على امتداد التاريخ، حيث أدّت هذه الأزمة إلى انتشار البطالة، وانخفاض مستوى معيشة جزء كبير من المواطنين الأميركيين، في مثل هذه الظروف تصبح البيئة ملائمة لوقوع اضطرابات في أيّ بلد من بلدان العالم، ولهذا لوحظت مشاركة كثيفة للبيض في تظاهرات الاحتجاج التي تشهدها المدن الأميركية، وهذه المشاركة تعكس واقع المعاناة الناجمة عن الأزمة الاقتصادية وانتشار البطالة التي لم تميّز بين السود والبيض والملوّنين.

ثانياً، فشل جهود إخراج الاقتصاد الأميركي من الأزمة نجم عنه وقف تدفق المهاجرين والتشدّد في منح الجنسية للأميركيين المهاجرين الذين أمضوا فترة في الولايات المتحدة، ولا سيما السود والملوّنين اللاتينيين ، وقاد ذلك إلى تضرّر ملايين المقيمين في الولايات المتحدة، بعض الإحصاءات تقدّر عددهم بأكثر من ثمانية ملايين نسمة، وبديهي أنّ هؤلاء هم حلفاء للعاطلين عن العمل وللسود الذين ما زالوا يتعرّضون لأشكال متعدّدة من التمييز.

هذا السياق من شأنه أن يجعل الاضطرابات الحالية مختلفة عن الاضطرابات التي تحدث عادة حول تجاوزات فردية للشرطة، الأمر الذي قد يتسبّب بولادة حركة سياسية جماهيرية جديدة تناضل من أجل إحداث تغييرات جوهرية في الحياة السياسية والاجتماعية القائمة في الولايات المتحدة.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى