مقالات مختارة

التهميش في المجتمعات العربية منى سكرية

 

وضع الكتاب الصادر عن «تجمع الباحثات اللبنانيات»، تحت عنوان «التهميش في المجتمعات العربية ـ كبحاً وإطلاقاً»، قضية التهميش في المجتمعات العربية، على طاولة التشريح بالمعنى السوسيولوجي، نبشاً ونقاشاً وحفراً بأقلام باحثة عن مساحات التهميش والمهمشين والتي تطال أكثر من شريحة وميدان في هذه المجتمعات .

إنتقائية موضوعات الأبحاث، وتشابه ما أثارته، وتناغُم ما دعت إليه، أو خلصت الى نتائجه، بما لم يفسح المجال للبحث في أنواع وميادين التهميش كلها، فضلاً عن مواقع قواها المنيعة على التشريح، جعلتنا نلاحظ غياب قضايا تهميش ومهمشين – كبحاً وإطلاقاً – كما في حالة أطفال الشوارع، الحالة التي استعصت على معالجة أوضاعهم بقدر ما تعددت النظريات المحيطة حولها، فأبقتهم التصنيفات تحت خانات التشرد، أبناء السبيل، شحاذون، الى اتهامات لا تنحصر بالانحراف، وبيئة الجرائم الاجتماعية، ونكران النسب العائلي، ودونية فئاتهم حتى البيولوجية أحياناً. كذلك في حالة الأحداث في السجون، وعاملات النظافة في البيوت، وتجارب نساء من فضاءات دينية بالمعنيين السلبي والإيجابي لتجاربهن، وتهميش الآخر بإقصائه دينياً وسياسياً ومعنوياً بكل ما ينتجه هذا الإقصاء من توترات اجتماعية فائضة ومهيمنة اعتورت مجتمعنا العربي منذ فجره وما تزال، فلا تُنزِله من مراتب التهديد – التفتيت المُستدام.. وإلى غض النظر والبصر عن القلق المقيم في طيّات أرواح وأنفاس عائلات المخطوفين والمفقودين وسجناء الرأي، خصوصاً نساء هؤلاء اللواتي تترتب أولويات مسؤلياتهن وحياتهن تبعاً لهذا التغير – الطارئ، ومثلها في مجتمع العشوائيات السكنية وما تختزنه من عنف كامن يؤشر لعنف قيد التنفيذ.. موضوعات مقيمة بيننا وعلى رأسها السؤال الملح: أليس في طبائع الاستبداد ما ترجمته تهميشاً وازدراءً تكوينياً يصيب المجتمعات وينتج نوائب الدهور، وخلاصات مصائر شعوبها؟

الانتقائية التي تبنهتا الباحثات بعد نقاش بينهن حفل بـ«الحماسة والتراجع»، وقارب السنتين حتى تغّلب قرار التنفيذ من عدمه، اتخذ أيضاً طابع التواطؤ الضمني بينهن لناحية الموضوعات المُثارة، فحملت توجيهات مضمرة ومسبقة التصميم، وإعطاء الوصفات الجاهزة، والنتائج المتوقعة، فـ«استوحينا ما يقوله علم الفيزياء من إنه مقابل كل فعل يوجد رد فعل»(ص11)، وهو ما يثير إشكالية إخضاع البشري للحسابي، وهو أمر غير مكفول النتائج، ويحتاج تشريحه لشتى أنواع العلوم الانسانية ومقارباتها، لا سيما إذا ما طاولت بنى المجتمع العربي بأمزجته المتقلبة، وظروفه المتأرجحة.

بمعنى آخر، لم تنتبه الباحثات الى أن نقاشاً حول انزلاق القوانين تجاه المرأة في لبنان (مقالة ماري روز زلزل) سيثير التساؤل حول تهميش تناولهن لهذه القضية المزمنة في غير بلد عربي، ومثلها اقتصار النقاش عن الأقليات على الأقلية البهائية (مقالة هدى المعماري)، في حين تتخطى مسألة الأقليات في الوطن العربي بأبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والمصيرية حدود التهميش، لتخرق أعماق هذه البنى ومستقبلها، وتجعلها عرضة لاهتزاز متبادل من عدم الثقة، وأدبيات ما فوق التخوين وصولاً الى التكفير، والتهميش المعنوي! ومثلها في نموذجية مدينة طرابلس المهمشة (مقالة نهلة الشهال)، الى اكتفاء مقالتي نجلا حماده ونازك سابا يارد باختيار روايات أدبية لأربعة روائيين لدلالة الجزء على الكل، ناهيك عن جهوزية الوصفة الطبية للمهمشين والمهمشات بقدرتهم/ن على تخطي حالاتهم/ن ، بمجرد توافر وسائل ووسائط التكنولوجيا وأدواتها (مقالة نهوند القادري) وهو على أحقيته، يدرج التساؤل العفوي وبقوة أمامنا وذلك عن نسبة تغطية أدوات التكنولوجيا لدى 97 مليون عربي يعانون الأمية الكتابية فكيف بالرقمية؟ (الرقم المذكور مأخوذ من تقرير المنظمة العربية للثقافة والعلوم- الكسو للعام 2013)، وغالبيتهن من النساء؟

تهميش الذات

من محاور الكتاب، اخترت بعض النماذج، منها غوص الدكتورة في علم النفس أنيسة الأمين مرعي في بحثها بعنوان «تهميش الذات في الخطاب العلمي المعاصر»، في تحليل وتناقض معنى الذات العربية عن مفاهيم الفرد والشخص، وترى في كليهما «موطن التجاذبات والصراعات والاستلاب والحرية»، مستعينة بتساؤل الشاعر أدونيس القائل: كيف يحلل علم النفس فرداً لا ذاتية له؟ أو «ذاتاً» لا ينظر إليها إلا بوصفها «موضوعاً»؟ وكان سؤاله في سياق حديثه عن صورة المسلم الإتباعي في الثقافة من دين ولغة.

القدس/ الموت والحياة

في هذا النموذج من البحث عن التهميش، ثمة ما يحيي معنى الإطلاق كمقابل للتهميش، وكمعطى فاعل وليس نظرياً، بأسلوب وجداني/نفسي متدفق على صفحات البحث وعنوانه «حياتية الموت والميت في المجتمع الفلسطيني: أن تموت في القدس» للكاتبتين الفلسطينيتين نادرة شلهوب غيكفوركيان وسهاد ظاهر ناشف، فتعترفان بداية «بصعوبة الفصل بين جسد الميت والحقل السياسي الذي ينحدر منه أثناء وجوده بين الإعلان عن الموت والمثوى الأخير». (تمثل القدس في الحالة المبحوثة هنا نموذجاً معمماً لكامل فلسطين وأهلها تحت الاحتلال الاسرائيلي).

وتستعرض الباحثتان حالات موت وُثقت في القدس في الفترة الواقعة بين العامين 2009 و2011، و«تعاملنا مع الفلسطيني هو ليس على أساس كونه ضحية أو مفعولاً به فحسب، بل كذلك سنفهم كيف يواجه ويقاوم الفلسطيني ـ حياً كان أم ميتاً ـ أفعال السيطرة الإسرائيلية بأفعال تلغي هذه المحاولات وتصعبها» (ص137). فكان سؤال البحث المركزي هو: كيف تتشكل سيرورة حياة الميت وحياة أقربائه بين إعلان الموت والوصول إلى المثوى الأخير في القدس وضواحيها؟ استُخدمت فيها آليات بحث كيفية، ألا وهي المقابلة المفتوحة المعمقة، والمشاهدة المشتركة وتوثيق مستندات ذات صلة بموضوع البحث جرى تحليلها نصياً بما يتلاءم مع البحث الكيفي.. ومنها قول أم أحمد «منذ وفاة أمي في القدس وأنا منقلبة، لا سيما أني لم أستطع الوصول لأودعها ولم يكن بحوزتي تصريح»، ولكن في قصة رحلتها كفاقدة أعادت أم أحمد صياغة الواقع السياسيّ».. أما رحلة جثة العم جميل، والصراع في سبيل العودة إلى البيت، فيوازيان حق الفلسطينيين بالعودة، ويعكسان المحاولات الإسرائيلية لتهميش الأحياء والأموات وإبعاد بعضهم عن بعض» (ص139-140).

وتخلصان/تؤكدان أن «حدث الموت هو حدث يحرر الفلسطيني من أدوات القمع الإسرائيلية، كون العائلة استطاعت وبذلت كل ما في وسعها لتحقيق رغبات الميت. حَدَث الموت هو حدث تَحَرُر الميت وحدث مقاومة عائلته. الموت أحيا القدرة على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. أن تكون في القدس معناه أنه عليك الموت كي تحيا.. لحظة الموت في القدس تعني إعادة صياغة الأحداث التاريخية من خلال موت شخص. إن حدث الموت في القدس يبيّن أدوات السيطرة الإسرائيلية وأدوات المقاومة الفلسطينية. حدث الموت يرسّخ حق العودة للفلسطينيين. من خلاله يجري سرد التاريخ وكتابته من جديد، يجري من خلاله لمّ الشتات، ويكثف استمرارية الكيان الفلسطيني لا على الأرض فحسب بل في باطن زمان وفضاء الأرض الفلسطينية»(ص153).

اعترافات باحثات

شهادات من باحثات لبنانيات، وهو عنوان الطاولة المستديرة التي جمعت الباحثات اللواتي استنطقن التهميش كمادة دراسة، لتعمل فاديا حطيط وعزة شرارة بيضون (أستاذتان في الجامعة اللبنانية) على استنطاق زميلاتهن في تجمع باحثات، في عمل مرآتي شفاف لا يبغي الاختباء خلف التنظير، فحملت اعترافاتهن تأشيراً إيجابياً يؤكد نظرية الكبح والإطلاق، أثرته الأسئلة ـ الروائز في خلاصات التقويم.. أما الأسئلة فكانت:

أولاً: هل تدرك الباحثة ذاتها على أنها هامشية/ مهمشة على النشاط المجتمعي اللبناني في إطار مهنتها كباحثة/ أكاديمية/ عاملة في المجال الثقافي، كيف ينعكس ذلك على أبعاد/ مكونات وجودها الأخرى؟ وكيف يتوافق/ يتنافر إدراكها لذاتها مع الصورة التي يحملها «الناس» لها، كباحثة؟

ثانياً: ما هي المشاعر التي تطلقها لديها هذه الهامشية، إذا وُجدت؟ ما هي، وفق معيشها، «المكافآت» وما هي «الخسارات» المحصلة من الهامشية/ التهميش في مجتمعنا؟

وتخلصان الى تعدد مصادر التهميش ومنها:

اللاوعي الجمعي، الواقع الجندري التمييزي، الوضعية السوسيولوجية: تمثلت هذه الوضعية، تارة، بيئة اجتماعية مهمشة على الصعيد الوطني (الجنوب) أو على الصعيد الاجتماعي (محرومة) أو على الصعيد الأسري (عائلة هامشية على صعيد الحسابات العددية الانتخابية) فيها، نظرة الوسط الاجتماعي بعين الرفض إلى النساء اللواتي يحققن ذواتهن من خلال الدرس والعلم والعمل، وأيضاً في السلطات الأكاديمية/ المعرفية، وفي ضروب التهميش أيضاً إهمال المواضيع التي تهم معاش النساء الشخصي، مثل الدراسات المتعلقة بالجسد أو علاقة الرقص بالدراما أو علاقة الممثل بالراقص، علاقة الشخصيات الدرامية بالتفكيك الجسدي… أو مواضيع البحث النسوية برغم راهنيتها… وكذلك هي حال الأبحاث في أوضاع المرأة في الخطاب السياسي العام.

في مواجهة التهميش الذي استشعرته الباحثات، برزت لديهن الرغبة في جعل الذات الفردية، والأنثوية أحياناً، متناً، فيما المجتمع والثقافة المجتمعية هامشاً.

أخيراً، هناك الكثير من ميادين التهميش بوجهيه الخفي والمعلن، في الكبح والإطلاق الناجمين عنه، كانت لتغني أكثر أبحاث الكتاب التي تراوحت بين تفاوتات، بين صادم ثابت، وآني ومُبهرَهج في حينه لم تغمر تفاعلاته دوائر حجر بركة الماء. على سبيل المثال لم تتطرق الباحثات الى أي حالة تهميش أو إطلاق في مجتمع الخليج العربي؟ كما طال التهميش عدم التعريف بجميع أسماء المساهمين والمساهمات في أبحاث الكتاب؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى