مقالات مختارة

سؤالان مفتاحيان: الى أين؟ وما العمل؟ عصام نعمان

تسنّى لي خلال الأسبـوع الماضـي أن أشارك فـي ثـلاث ندوات فكريـة سياسية جرى عقدها في بيروت. محور البحث والمناقشة في ندوتين منها كان آفاق الصراع في المنطقة، والموضوع الرئيس في الثالثة كان: لبنان… إلى أين؟

المحاضرون الثلاثة توزّعوا في انتمائهم الفكري والسياسي على التيار الليبرالي الديمقراطي، والتيار القومي العلماني الراديكالي، والتيار الإسلامي المقاوم. كذلك الجمهور المشارك في الندوات الثلاث، فقد توزّع بنسّبٍ متقاربة على التيارات الثلاثة.

المحاضر الليبرالي الديمقراطي أوجز الوضع في لبنان بواقعات أربع: أ شغور متكرّر في رئاسة الجمهورية، وتمديد متكرّر لولاية مجلس النواب لتعذّر إجراء انتخابات نيابية، وعدم احترام الدستور والميثاق الوطني المجدّد في «اتفاق الطائف»، وتحوّل الطوائف والمذاهب «أمماً وشعوباً»، ب عدم الاستقرار الأمني والاجتماعي، جـ انتقال نار الأزمة السورية إلى لبنان وانقسام اللبنانيين بين مؤيد لـِ»الثورة السورية» ومؤيد للنظام المتصدي لـِ»الإسلام التكفيري»، د اشتداد الخـلاف بين السنّـة والشيعـة، مع استمرار الخـلاف المزمـن المسيحي المسلم، وتقاتل السنّة والشيعة المؤدّي إلى تدفيع الأقليات ثمناً باهظاً.

إلى أين من هنا؟

أجاب المحاضر الليبرالي الديمقراطي أن تحديد مصير لبنان رهن بما سيجري في سورية. إذا قُسّمت فقد يُقسّم. إذا فُدرِلَت بمعنى فرض نظام فيديرالي عليها فُدْرِل. وختم المحاضر محذراً اللبنانيين بشتى تلاوينهم من الاعتقاد بوجود مظلّة دولية تجنّب لبنان حرباً أو تفكيكاً أو إلحاقاً بدولة أو دول أخرى.

المحاضر القومي العلماني الراديكالي اتفق مع المحاضر الليبرالي الديمقراطي في توصيفه حاضر لبنان وسط ما اسماه «تشابك المصالح المحلية والإقليمية واشتباكها على امتداد خريطة العنف في المشرق والخليج»، ملاحظاً فقدان الأمل بحلّ لانعدام اللجوء إلى المرجعيتين المعتمدتين للحلول: الميثاق الوطني والدستور، ومؤكداً أن لا طريق ثالثاً بعد، وهو الطريق الذي كان يعوَّل عليه، طريق العواصم الإقليمية ذات النفوذ الحاسم والآمر على الأطراف اللبنانية.

المحاضر الإسلامي المقاوم أحاط بأبعاد ما اعتبره هجمة أميركية صهيونية متجددة تستهدف البلدان العربية كلها وترمي إلى تعميق حال الانقسام والشرذمة والفوضى، وتوظّيف بعض التنظيمات الإرهابية التكفيرية والتعاون مع بعضها الآخر في تفجير الفتن الطائفية والمذهبية ومحاصرة قوى الممانعة والمقاومة، ومحاولة إلهائها عن مقاومة «إسرائيل» وقوى الهيمنة الأميركية والأوروبية بمشاغلتها مع تنظيمات إرهابية في الداخل. وأكد المحاضر أن حزب الله اضطر إلى المشاركة في التصدي لتنظيمات الإرهاب التكفيرية في سورية دفاعاً عن المقاومة بعدما نقل الإرهابيون حربهم إلى الداخل اللبناني، موضحاً أن لبنان هو المستفيد الأكبر من دعم حزب الله للجيش السوري في تصديه للتنظيمات الإرهابية التكفيرية الناشطة في القلمون على الحـدود بين البلدين. ذلك أن سورية ربما يكون لها أولويات تتقدم على مواجهة الإرهابيين التكفيريين في تلك المنطقة الحدودية.

في محاولة الجواب عن السؤال المطروح «إلى أين؟» كاد المحاضرون الثلاثة يقدّمون الجواب السلبي نفسه: لا أفق ولا أمل بحلّ في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور.

المحاضر الليبرالي الديمقراطي أكد أن لا أجوبة محدّدة لديه الآن عن هذا السؤال، بل مجرّد ملاحظات واستنتاجات. أبرزُ استنتاجاته أن الدول الكبرى «أبلغت إلى الجميع أنها لن تتدخل بوسائل سياسية لمنعهم من الانتحار، إذا اختاروا الانتحار».

المحاضر القومي العلماني الراديكالي بدا أكثر تشاؤماً. قال: «بانتظار أن تسفر حروب المنطقة عن نهايات غير معلومة النتائج، فقد يجترح صنّاع البلدان والأوطان صيَغاّ لمشرق جديد يكون الحلّ الأسوأ هو أفضل الحلول: صياغة أوطان على شاكلة لبنان الفاشل». برّر موقفه بأنه «ليس في الأفق بصيص. وهذا ليس من باب التشاؤم بل من باب النظر العميق أو النظر إلى بعيد».

المحاضر الإسلامي المقاوم حرص على تفادي أن يبدو متشائماً بأن يكون واقعياً. ففي تعليقٍ على صيغة مقترحة من أحد الحاضرين لتكون مخرجاً من الحال السياسية اللبنانية المستعصية، أكد المحاضر على أنّ ميزان القوى الداخلي في لبنان لا يسمح في الوقت الحاضر بإحداث اختراق ناجح لصالح الإصلاح والديمقراطية. ولعلّ ما عناه بذلك أن ثمة أولوية تتقدم على مسألة الإصلاح الديمقراطي هي مواجهة تحدّي الإرهاب التكفيري.

المحاضرون الثلاثة أفصحوا عن اقتناعاتهم ومواقفهم بصراحة لكنهم أحجموا عن توضيح رؤيتهم لمستقبل البلاد وطموحاتهم في هذا المجال. مردُّ التقصير يكمن، بعضُه، في إحجام منظمي الندوات الثلاث عن طرح سؤال مفتاحي رديف «ما العمل؟»، وبعضه الآخر في امتناع المحاضرين الثلاثة عن طرح هذا السؤال على أنفسهم والتصدي للجواب عنه.

لعلّ القسط الأكبر من التقصير يتحمّله المحاضرون لأنهم جميعاً من صلب القوى الوطنية الحية المنتَظْر منها، بل المطالَبَة، بأن تكون دائماً حاضرة وقادرة على توليد أفكار ومناهج وخطط وحلول للمشكلات والمعضلات التي تواجه الوطن والأمة.

صحيح أنّ ميزان القوى عامل أساس في الصراع ويقتضي وضعه دائماً في الحسبان عند تقدير الموقف ووضع خطط للمعالجة أو المواجهة، لكن ميزان الإرادات أوْلى وأجدر بالتقدير والحسبان. أليس هو، في كثير من الظروف والأزمات، مؤّلد موازين القوى والمؤثر فيها سلباً وإيجاباً؟ أليست المقاومة فعل إرادة وعامل حاسم في توليد ظروف مغايرة وموازين قوى جديدة؟

تردّي الأوضاع واستشراء الفساد والانحطاط وشيوع الخمول والسبات يجب أن تكون حوافز، لا كوابح، للقوى الحية في التفكّير والتدبير. التوصيف متعة المتفرّجين. التغيّر والتغيير مهنة المتمرّدين والثوريين والديمقراطيين النقديين.

دقت ساعة العمل الجدّي والجذري.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى