مقالات مختارة

“حساسيات” أردوغان محمد نورالدين

 

يظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في هذه الأيام منسوباً عالياً جداً من الحساسية تجاه الوضع في مدينة حلب محذراً من سقوطها بيد “داعش” .

يقول أردوغان للصحفيين المرافقين له قبل ذهابه في زيارة رسمية إلى تركمانستان إن “حساسيتنا تجاه حلب هي أكبر بكثير من حساسيتنا تجاه كوباني (عين العرب) . يجب قول ذلك . ونحن نقوم بما يتوجب علينا شمال خط العرض 36 لمواجهة أي موجات نزوح جديدة . فحلب هي المركز الاقتصادي الأهم في شمالي سوريا . وهي مركز تاريخي وحضاري . وهي تواجه تهديداً في ظل الكثافة السكانية التي فيها نتيجة الهجرة . وهي أمام محاولات التنظيم الإرهابي “داعش” كما محاولات النظام السوري . لذا نحن ننقل حساسيتنا المتصلة بالمنطقة في كل اللقاءات التي نجريها . وهي حساسيات تتصل بحلب وكوباني وكل الشمال السوري، كما تستمر حساسيتنا تجاه العراق . ونواصل العمل معاً بهذا الخصوص مع رئيس الحكومة ووزارة الخارجية والقوات المسلحة” .

قبل أيام قليلة أبرزت صحيفة “يني شفق” الموالية لأردوغان تصريحات لمسؤول في ما يسمى بالجبهة التركمانية في سوريا واسمه “أبو فاضل” أجرت حواراً معه في جبل التركمان داخل سوريا، وقال فيه “نحن هنا نقوم بحراسة هذه المنطقة منذ 500 عام . لقد زرعنا السلطان سليم هنا . بل نحن هنا لنحمي الحدود التركية” . ودعا “أبو فاضل” إلى إقامة منطقة عازلة يكون جبل التركمان من ضمنها . مذكراً بأن هناك أكثر من ثلاثة ملايين تركماني في سوريا هجر معظمهم إلى تركيا بسبب الحرب الدائرة في سوريا .

غالباً ما كان المسؤولون الأتراك في العقود الماضية يشيرون إلى ضرورة تعديل الحدود مع سوريا لأسباب أمنية، بحيث يمكن الدفاع عنها ضد التهديدات الأمنية . والأمر نفسه ينطبق على الحدود مع العراق . غير أن المسألة عملياً أبعد من ذلك بكثير وتتصل بالتطلعات التركية لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يتقاطع مع الرغبة بإعادة الهيمنة والسيطرة على الأقل على بعض المناطق التي يعتبرها الأتراك جزءاً من حدود تركيا في مرحلة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية في العام 1918 .

فالحدود التي رسمها ما يسمى ب “الميثاق القومي” (ميثاقي مللي) وأقرها في العام 1920 برلمان اسطنبول ووافق عليها حينها، قائد حرب التحرير الوطنية مصطفى كمال أتاتورك، بل يقال إنه هو الذي اقترح تلك الخريطة، تشمل ولاية الموصل وشمالي العراق كما شمال سوريا بكامله، ومنه مدينة حلب . وإذا كان التطلع التركي أكثر وضوحاً في ما يتعلق بالموصل وكركوك وشمالي العراق، فإن التصويب على حلب بدأ يرتفع مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 .

إلى الدافع التاريخي لوضع اليد على حلب، فإن الفشل الجديد للسياسة التركية في إسقاط مدينة عين العرب ومحاولة ابتزاز التحالف الدولي لتحقيق مكاسب تركية صافية في إقامة منطقة عازلة ومنطقة حظر طيران جوي، يدفع بأنقرة إلى محاولة خلق واقع جديد يعتمد أساساً على تنظيم “داعش” والترويج إلى خطر داهم يهدد حلب من جانب هذا التنظيم . وهذا بالطبع يطرح أسئلة متعددة لها أكثر من بعد . فغير صحيح أن أردوغان “حساس” تجاه عين العرب حتى يكون حساساً تجاه حلب . فعلى امتداد فترة هجوم “داعش” على عين العرب لم يظهر المسؤولون الأتراك، وفي مقدمهم أردوغان أي حساسية تجاه الوضع هناك بل إن التوق التركي الجامح لسقوط المدينة تمثل في “تبشير” أردوغان بأنها على وشك السقوط في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكان هذا التصريح سبباً لانتفاضة الأكراد في مناطق جنوب شرقي تركيا وسقط خلالها أربعون ضحية جراء إطلاق النار عليهم من جانب الجيش التركي .

وحديث الحساسيات يقود إلى التساؤل، لماذا غاب التعبير عنها، لدى أردوغان، عندما سقطت الموصل، وهي من الحواضر التاريخية والمدنية في التاريخ العربي والإسلامي، وغير الموصل بيد “داعش”؟ ولماذا غابت الحساسية عن أربيل بعدما كانت تتعرض لتهديد “داعش” ورفضت تركيا طلب المساعدة العسكرية من مسعود البرزاني؟ ولماذا غابت الحساسية عندما كان المسيحيون، خصوصاً الأرمن، يقتلون ويهجرون من حلب ومن كسب ومن الموصل؟

يؤشر تعبير أردوغان عن حساسيته تجاه حلب، إلى مساع حثيثة لتفجير الوضع فيها بيد الأداة نفسها التي استخدمت لمحاولة إسقاط عين العرب، أي “داعش”، لتعويض الفشل في عين العرب ولتحقيق إنجاز ما في مكان آخر .

بعد ثلاث سنوات وثمانية أشهر على بدء الحريق في سوريا، تستمر تركيا في كونها أحد أهم النافخين في ناره . لكن إذا أردنا، كعرب أو حتى كأكراد، أن نبادل أردوغان الحساسيات فلن نحتاج للعودة إلى ما قبل خمسمئة عام من التاريخ . تكفي هنا بضعة عقود .

(الخليج)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى