مقالات مختارة

ماذا عساكم تقولون ؟ حيّان سليم حيدر

 

كان بودّي إقتراح بعض المواقف للبيان على زملائي لولا العطل الرسمي الذي حتّم غيابنا عن إجتماعنا الأسبوعي، مع علمي المسبق أنّ على الرغم من تأييد الأكثرية لهذه الآراء، إلاّ أنّ الرأي الوازن للحكماء كان سيرى أن يبقى النصّ على رزانته المعتادة متجنّباً التقريع.

فماذا عساني قلت؟ ما يأتي :

يهنّىء المنبر “بوركينا فاسو” الشعب الذي بلغ السيل معه الزبى فاحتلّ البرلمان (البوركاني)، ويحيّي المنبر القوى العسكرية التي إستجابت لإرادة الشعب (فصادرتها) فحلّت البرلمان والحكومة وأجبرت الرئيس “الزمني” على التنحّي إنهاءاً لحكم بات رتيباً بعد ما يقارب ثلاثة عقود.

والعقبى للبنان… هذا البلد العصيّ على التغيير والإصلاح والثورة وحتى الإنقلابات العسكرية ، على رغم كلّ الضجيج، المفرّغ من أي مضمون مفيد والحاصل من على المنابر والشاشات، ومن العجيج المتنقّل من وراء قطع الطرقات وحرق الدواليب والرمي بالبندورة والبيض (ضيعانها فيهم !) والذي بات يساوي فيما بين أتفه الأسباب وأسماها، فيوازي بين مبادىء حماية الدستور وتطبيق القانون وحفظ هيبة الدولة وإحترام مؤسّساتها وحماية حياة الناس وصون كرامتهم، وبين ” الدفاع عن حقوق ” الفئات ومواقع زعران الزواريب في سبيل إستدامة نفع الزعامات المتوالدة أبداً ” بالإرادة الشعبية ” !

وبغضّ النظر عن ” لا ديمقراطية ” المعالجة في “بوركينا فاسو” وإعتراض ” المجتمع الدولي” (المملّ) والإتّحاد الأفريقي (المعِلّ) على إجراءات العسكر، فتبقى هناك إيجابية ساطعة: الشعب عبرّ عن إستيائه والتغيير (أيّ تغيير) قد حصل فعلاً !

أمّا في لبنان، فيبقى من دون رئيس (تكراراً) ولا يتغيّر شيء، ويبقى من دون قانون إنتخاب عصري وعادل وبالتالي من دون إنتخابات ولا يتغيّر شيء، ويعيش (والوصف غير دقيق هنا) من دون كهرباء ومن دون ماء ولا … ، ومن دون معالجات لأمور الناس، كبيرها وصغيرها، على مختلف مستوياتها ومنذ عقود… ولا يتغيّر شيء. فهلاّ ينبري مغيّر منقذ مستبدّ عادل؟ ويا شعب “ما بهمّ … وما بأثّر” إنتفض ! (1)

وفي لبنان يحصل الشيء ونقيضه في آن … بكلّ بساطة وبموجب القانون وفي كلّ الأمور. فنخالف الدستور، حرصاً على الدستور، ونغيّر مفهوم الصيغة تمسّكا بها، ونتحايل على القانون تطبيقاً له، ونعيش الفراغ مخافة من الشغور (أو هو العكس… لا أدري) حيث بات يصحّ بنا قول سنينيك (Sénèque) في الماضي السحيق (العام 65 ميلادي): “كمّ من مرّة نموت مخافة من الموت !”.

فهنيئاً لكم فوضاكم الواعدة يا أهل “بوركينا فاسو” !

وفي لبنان، القاتل يصبح قاضياً، والسارق يكافح الفساد، والجاهل يعلّم الأجيال والعميل يعلم الوطنية والإرهابي يمسي بطلاً والعكس صحيح. وفي بلد العجائب هذا، نطالب بأن يكون الأمن وحماية الوطن وقرار الحرب من مهام الجيش حصراً… ونمنع عنه التسليح، ونطالب بالعدالة ونسلمها الى الخارج الغريب عن مصلحة الوطن ونسعى وراء الحقيقة بإخفاء معالمها وتزييف وقائعها ونعارض التدخل الخارجي بشؤوننا الوطنية … بأمر منه !

ومن لبنان نصدّر طاقاتنا الشابّة الواعدة الى بلاد الله الواسعة، ونستورد من الخارج الجهل والتخلف والتطرّف من كلّ حدب وصوب.

وفي لبنان، الفهيم المطلع السبّاق في كلّ ميدان، لا نقارب النسبية في قانون الإنتخابات، مخافة من عدم فهمها من قبل اللبنانيين وتجنّباً لتعقيداتها عند التطبيق في حين أنّنا نصدّر مشرّعينا للمساعدة في وضع دساتير الديمقراطيات العربية الناشئة التي إعتمدت النسبية فتفهّمتها شعوب لم تعرف قط الإنتخابات. علماً أن النسبية، هي كامنة في كلّ ثنايا الحياة السياسية اللبنانية (والتجارية أيضاً) وبكلّ تحريكاتها: النسب، أي بفتح النون (والسين) أو بضمّها أو بجرّها !.

وأكثر ما يغيظك في الأمر الواقع هو أنّ المنطق والأحداث والتصرّف الداعشي الحاصل اليوم يفسح في المجال لمرتكبي البارحة من اللبنانيين بأن ينالوا براءة ذمّة غير مستحقّة عن فجورهم وأعمالهم، ويخلق منصّة فريدة من نوعها الإلغائي لكلّ ما هو “غير أنت”.

وليس لبنان كلّه حزن “ونقّ”. ففيه فرح أيضاً وقد أطربتنا أغنيّتان أصمّتا آذاننا طوال أربعة عقود في كلّ مناسبة ومن دون مناسبة فأصبحتا بمثابة نشيد وطني. ومع تقديرنا الكبير للفنانين، هل سمعتم “راجع، راجع يتعمّر لبنان !” أو”لبنان الكرامة والشعب العنيد !” ؟ وعلى حيوية أنغامها وإرتقاء الجمهور الى الهلوسة لدى سماعها هل سأل أحد منّا لماذا يرجع لبنان، بين كلّ حين وآخر، ليتعمّر… من جديد؟ أليس لأنّ شعبه عنيد ولا يتعلّم من المرّة الأولى أو المرّات التالية؟

ولقد صدقت فعلاً الطرفة التي تقول أن اللبنانيين مثل آدم وحواء، فهم بلا عمل ولا ماء ولا كهرباء ولا رئيس ولا مجلس ولا حكومة ولا قانون وهم متأكدون أنهم يعيشون في الجنّة (والأصحّ يكون أنّهم يعيثون).

وأخيراً، أرسل هذا الكلام الى أصدقائي ومعارفي وبعض وسائل الإعلام بهدف نشره في عالم باتت كلّ مجموعة من الناس فيه تتخاطب مع بعضها كما في إطار “فايسبوك” ولا تبالي بالآخر أو بأثر ما قيل. وقد قلت لنفسي من سيقرأك؟ وهل ستنشر صحيفة ما هذه الصرخة الهوجاء؟ وكان جوابي لنفسي: ومن يهتمّ ؟ فعليّ أن أتصرّف كما “المسؤولين” في هذا البلد المعذّب، أقول كلمتي وأمشي. المهمّ أنني أطلقت “فشّة الخلق” المتراكمة منذ أجيال في صدور الناس !

وليس من المهمّ أن يسمع أو يقرأ الناس أو يتّعظ مسؤول ! المهمّ الأنا، كما دائماً في الإنسان وفي لبنان !

بوركت بوركينا…!

 

( مع بالغ الإعتذار عن إعتمادي أسلوب “بعض السجع من كثر الوجع”

خارج القيود … وخاصّة القيد الطائفي، لعنة لبنان الكبرى. )

  1. من مفارقات مجاملة اللبنانيين لبعضهم البعض أن يقولوا، تخفيفاً عن الشاكي أو الباكي أو المعتذر:        لا يهمّ (ما بهمّ) أو لا يوثّر (ما بأثّر).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى