مقالات مختارة

أزمة الهوية السلفية القتالية هادي قبيسي

 

عجزت السلفية القتالية عن إنتاج هوية جامعة تستطيع ربط المجالات الأيديولوجية والجغرافية والقومية المختلفة التي انضوت في مشروعها، ظلت شعاراً عائماً ويافطة عالية تضم تحتها ما لا يحصى من الأفكار والمصالح والاندفاعات. وبدلا من تحليل الدوافع المحركة لنشاط هذه الهوية، لفهم جذر الأزمة، لا بد من العودة إلى نمطيات التفكير المستحكمة بها.

النمطية المركزية هي الفكر التجزيئي الذي لا يستطيع استيعاب التنوع البشري، حتى داخل إطار السلفية القتالية، وهو ناشئ من سهولة الانتقال من تقييم الخاطئ إلى توصيفه بالكافر، والتساهل في الانتقال من الفقهي إلى العقائدي، بحيث يمكن إلباس الخطأ في ممارسة الشريعة لباس الكفر الكامل بها وبالله تعالى، وسهولة نعت التأويل المبني على منطق عقلاني منضبط بالبدعة، في الوقت نفسه الذي يمكن فيه التخلي عن جزء كبير من الشريعة لصالح بناء السلطة التي تحمل الشعار الديني. لقد ولَّد الهزال في الانضباط تنوعات لا متناهية تدعي كل منها المشروعية وتنكرها لغيرها.

نتج هذا الهزال من قصور العقل، المتحكم بهذه الظاهرة الفوضوية، عن فهم العمق الروحاني والرحماني للدين الإسلامي، حيث اكتفى بالفهم السطحي للدين، بحيث يشبه إلى حد كبير بنية التشريع الوضعي وآليات إنتاجه.

هوية فكرية متأرجحة مفتوحة على تأثير العامل السياسي، إلى حد تنتج فيه الإتجاهات الفكرية والفقهية بناءً للمصالح السياسية المتكثرة للأمراء والمجموعات، المتناثرين والمنتشرين على امتداد العالم الإسلامي، على حساب المرجعية السياسية أو الفكرية الموحدة، بحيث أصبح المشروع السلفي القتالي طرائق قدداً، ووصل إلى مراحل الصراع والإحتراب الدامي. فبعد تشرذم هذا التيار برزت الحاجة إلى إثبات التمايز في الهوية، التي تنبني على أساس شبكات المصالح الفردية والجماعية، ودفعت الفصائل السلفية القتالية إلى الاتجاه الإلغائي في إطارها الداخلي بناءً على أحكام تكفيرية ميدانية.

الهوية المفككة نتيجة ارتكازها إلى الحرية الواسعة في إنتاج الفتوى وسهولة تحديد التموضع السياسي ضمن الإطار السلفي القتالي من خلال التمايز عن التموضعات الأخرى، أنتجت اختلالاً في ثبات التموضع الاستراتيجي واستقراره.

الأزمة السورية كحالة آنية تمكننا من فهم ميكانيزمات التأثير بين الفكري والاستراتيجي. وفدت المجاميع السلفية القتالية إلى سوريا بناءً للفرصة التي أتاحها العدو المركزي لهذه المجاميع، الولايات المتحدة الأمريكية، فلم تتردد السلفية القتالية في اغتنام الفرصة، ورأت في ذلك لحظة تاريخية لا بد من التكيف معها.

العقل الوهابي الذي يعاني من أزمة منهجية، ويعتبر التعسف الفقهي أحد تجلياتها، لم يستطع التخلص من نمطيته الذهنية عندما دخل في معالجة القرارات الاستراتيجية. العقل الذي يرتب أحكاماً عقائدية على السلوكيات الجزئية، بحيث يعتبر قراءة الفاتحة على إنسان متوفى إنكاراً للوجود الإلهي أو شركاً يتضمن تأليه المتوفى، هذا العقل ينطوي على منطقة فراغ في الاستنتاج المنطقي، ويمارس إسقاطاً غير مفهوم، سيقع في الخطأ نفسه على المستوى السياسي.

مضافاً إلى الاختلال في تحديد التموضع الاستراتيجي لحظة التورط في الكمين الأمريكي في سوريا، نتيجة مياعة ومرونة الهوية، ساهم الاختلال المنطقي لهذا العقل في القصور عن استشراف وتوقع مآلات ونتائج المشاركة في معركة يديرها ويشرف عليها العدو الأمريكي.

وصل هذا السياق إلى وقت وجدت فيه السلفية القتالية نفسها تقاتل في نفس الخندق مع عدوها الأمريكي والإسرائيلي من الناحية الإستراتيجية، وفي منطقة تقع تحت إشراف وتأثير هذا العدو كذلك، وفي لحظة ضعف وجدت مجموعات منها مبررات سياسية وربما حتى شرعية للجوء إلى العدو الصهيوني للحصول على الدعم اللوجستي والأمني.

لعبت القوى المعادية للسلفية القتالية على نقاط الضعف النفسية والفكرية، واستطاعت أن تقسم هذا التيار بالاستفادة من ثلاثة عوامل : الأول تعدد القيادة، والثاني الانتشار الجغرافي المنفصل، والثالث الحرية الأيديولوجية الواسعة.

تمكنت المنظومة الغربية العربية من تحقيق استدارة كاملة لدى هذا التيار، وتحويل أولوياته بشكل كامل عن استهداف تلك المنظومة، لا بل واستثماره في قتال خصومها، وفقدت السلفية القتالية وحدة التوجه الاستراتيجي الذي كان بن لادن قد نجح في توطيده برؤيته الشاملة التي جعلت من استهداف أمريكا واستنزافها هدفاً مركزياً، وبذلك فتح الطريق نحو تعدد الأهداف والمشاريع، وبدأ الاقتتال الأهلي السلفي يصبح مشهداً يومياً نتيجة التداخل الميداني في الساحة السورية. ساهمت الضربات الجوية الأمريكية لطرفي الصراع الرئيسي، داعش والنصرة، في التخفيف النسبي لوتيرة هذا الاقتتال، إلا أن ثمة شروخ ضاربة في العمق تحكم بنية السلفية القتالية الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى