مقالات مختارة

ما بعد شرارة «الأسواق».. لا عودة إلى الوراء ملاك عقيل

 

في الوقت الذي كانت فيه قوى سياسية شمالية تخفّف من حجم مخاطر الخلايا الارهابية في الشمال وتتجاهل التقارير الأمنية التي تحدّثت عن انفجار وشيك في طرابلس، كان الجيش اللبناني يُنهي استعدادات اللحظة الأخيرة لمواجهة كان يراها واقعة حتماً.

كل من شارك في التسوية التي قادت الى خروج شادي المولوي وأسامة منصور ومجموعتهما المسلحّة من مسجد عبدالله بن مسعود، كان يدرك أنها بمثابة تأجيل للمعركة.

بدا الفارق واضحاً بين تعامل الجيش مع المجموعات الإرهابية حالياً، وبين تعامله في جولات العنف الماضية، فالعملية الأمنية التي نفّذتها القوة الضاربة في الجيش في عاصون بالضنية، وأحيط توقيتها بسرية تامة، والتي أتت بعد نحو أسبوعين من «نزوح» المولوي ومنصور الى «بقعة آمنة» في باب التبانة، كان مقدّراً لها أن تستدرج ردّة فعل من جانب المجموعات الإرهابية، فكانت شرارة الأسواق.

حتى أن المشهد العسكري يبدو مختلفاً عن مشهد معركة عرسال 1. هنا، كان عنصر المبادرة بيد الجيش وليس العكس. الأهم أن المؤسسة العسكرية قدمت نموذجاً فيه حرفية وكفاءة وإتقان وصرامة يتجاوز «نموذج عبرا» الذي شطب الشيخ أحمد الاسير من المعادلة الصيداوية ومن لائحة التحريض على الفتنة.

ثمة قائد للجيش عائد من اجتماع قادة جيوش «التحالف» في قاعدة أندروز برئاسة باراك أوباما، ومعه ضوء أخضر دولي وإقليمي لخوض حرب بلا هوادة ضد الإرهاب. توافر الغطاء السياسي الخارجي والداخلي، فرسمت المعركة المفتوحة من أسواق طرابلس وزواريب التبانة الى بحنين وجرودها في المنية، صورة للجيش بوصفه فعلاً وليس قولاً، آخر المتاريس دفاعاً عما تبقى من دولة وهيبة في البلد.

ولأكثر من اعتبار، تبدو طرابلس ومعها الشمال أمام معادلة «لا عودة الى الوراء». وكل المؤشرات تصبّ في هذا الاتجاه، خصوصاً أن الحسابات السياسية المحلية والإقليمية في معركة عرسال (الخوف من تقوية النظام السوري وتعزيز نفوذ «حزب الله») غير موجودة في معركة طرابلس والمنية.

صحيح أن المليارات التي أمطرت فوق اليرزة لم تعوّم مخازن الجيش حتى الآن بالأسلحة المطلوبة، إلا أن الدعم الدولي للمؤسسة العسكرية وقائدها، والالتفاف الداخلي حول الجيش يشكّلان هبة باعتماد مفتوح، في وقت كان فيه زعيم «تيار المستقبل» ينفض يده من جميع أصوات النشاز والتحريض داخل تكتله السياسي، مؤكّداً بما يشبه البلاغ رقم واحد ضمن الطائفة «بأن مَن يريد من السنّة، ولو من فريقنا، محاربة الجيش اللبناني، فسنحاربه».

بعد نكسة عرسال، استعاد الجيش زمام المبادرة عبر فرض «أجندته»، متحسّباً لسيناريوهات شبيهة بالثاني من آب، ومترجماً استنفاره بالردّ على كل محاولات الاختراق الحدودية، ولذلك رفض أن يساوم على خطة الفصل بين عرسال وجرودها ولا على استمرار تنفيذ المداهمات بحق مطلوبين.

قائد الجيش كان أكد في الآونة الاخيرة أن «داعش» تعتمد على خلايا نائمة في طرابلس وعكار وبعض القوى السنية. هذا التحذير، استخدمه بعض خطباء المنابر في الشمال تحديداً للإمعان في التحريض «على المكشوف»، فيما كانت تكر سبحة تقديم خلايا شمالية أوراق اعتمادها الـى «داعش» و«النصرة».

أما الإرهابيون فكانوا يحاولون اصطياد عناصر الجيش في وضح النهار ويهاجمون مراكزه ويكرّرون محاولات خطف جنوده، وفي الوقت نفسه، تتكرر حالات الفرار من الجيش، بما يوحي بوجود مخطط منظّم، بحسب ما كشفته عملية عاصون. كما رصد خط مفتوح بين المجموعات المتطرّفة في الشمال وبين إلارهابيين المتحصّنين في القلمون السوري وعرسال.

وتحدثت معلومات عن نية المسلّحين اعتماد طرابلس كجبهة مؤازرة، خصوصاً بعد وقوع عناصر «داعش» و«النصرة» في عرسال وجرودها بين فكي كماشة النظام السوري و«حزب الله» من جهة والجيش اللبناني من جهة أخرى.

وحالة شادي المولوي ـ أسامة منصور، التي تكفّلت التسوية بتقوية عودها، عكست الاستعداد لجرّ الجيش الى فخ كبير، لكن القرار السياسي الذي لم يأت هذه المرة «على القطعة» بل بالجملة، قلب الأمور رأساً على عقب.

كان واضحاً منذ عملية عاصون أن المناخات السياسية مؤمّنة لتغطية كل الخطوات التي تصبّ في إطار الأمن الاستباقي، وبدت جهوزية الجيش لمواجهة ردّات فعل المجموعات الإرهابية واضحة للعيان، تحت سقف قرار سياسي بعدم السماح بانفلاش رقعة سيطرة المسلحين من طرابلس وأسواقها وصولاً الى المنية وعكار، فيما تردّدت معلومات عن توجّه قائد الجيش يوم السبت الى الشمال للإشراف على غرفة العمليات مباشرة.

وقد استنفر الجيش في معارك الشمال للمرة الأولى سلاح البحر، واستخدم المروحيات المقاتلة المجهّزة بصواريخ، والأسلحة الثقيلة مع مراعاة لخط المدنيين الأحمر، واخـترقت الملالات بقعاً لم تدخلها سابقاً، وبدا حازماً في ملاحقة فلول المسلحين الذين اعتمدوا خطة تشتيت قدرات الجيش بين طرابلس وقرى الشمال.

لقد فَرَض مسار المعارك تقصير حبل التدخلات السياسية مما انعكس تحرّراً أكبر في مجال العمليات العسكرية وذهابها أبعد بكثير من قواعد الاشتباك التي حكمت أداء الجيش في السابق.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى