بقلم ناصر قنديل

حرب العودة إلى الأصول في فلسطين والكيان: مؤسسات السلطة التقليديّة واللاجئون والمستوطنون: ناصر قنديل

حتى تاريخ مقتل اسحق رابين قبل ربع قرن، على يد جماعة مائير كاهان، كانت الجماعات الدينية المتطرفة لاعباً ثانوياً في المشهد السياسي لكيان الاحتلال، الذي كان يتصدّره قادة تقليديون يمثلون يميناً ويساراً، يشبهان حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا والحزبين الديمقراطي والجمهوري في أميركا، وكان قادة اليمين واليسار من نشأة عسكرية وتعبير عن عمق اقتصادي ممتد على مساحة المدن المركزية للكيان التي تنشط فيها شركات ورساميل في مجالات متعددة تمثل امتداداً لدور عمل عليه الكيان في الاقتصاد العالمي. ومنذ اغتيال رابين واغتيال كاهان وتصنيف حركته كاخ كحركة إرهابيّة في الكيان، دخل المتطرفون الدينيون المشهد السياسي بقوة، وشكلت حركة الاستيطان والتمسك بجغرافيتها عنواناً سياسياً لهم بدلاً من المطالب الدينية التي كانت تتصل بأيام العطل والتعليم والتجنيد، وإنشاء المدارس الدينية، ومنحهم هذا التماهي مع حركة الاستيطان مصدر الحيوية السياسية التي مكّنتهم من التحوّل الى قوة ترجيح في الانتخابات وتشكيل الحكومات، وصولاً لإمساكهم شبه الكلي بمناحي الحياة السياسية للكيان.

 

انتهى اليسار عملياً، مع سقوط عملية التسوية بمقتل رابين، رغم بقاء الحضور الشكلي للعملية التفاوضية ولبعض رموز حضور اليسار. ومع احتكار اليمين للمشهد السياسي بصورة رسمية مع صعود أرييل شارون وبنيامين نتنياهو، غاب المجمع السياسي التقليدي برجالاته وشركاته وقياداته العسكرية، ليتحوّل كل هؤلاء الى مجرد رهائن للمتطرفين الدينيين والمستوطنين، الذين لم تكن تعنيهم الحروب التقليدية للمؤسسة الحاكمة إلا بمقدار معنويّ لتعزيز سردية التفوق، ما ساعد المؤسسة الحاكمة بالاحتماء بالمستوطنين والمتطرفين لتبرير الانهزام وما تلاه من انسحابات من لبنان ومن غزة، لغياب صلتها الجغرافية برموز توراتيّة تمنح احتلالها بعداً عقائدياً، لكن سرعان ما تحوّل هذا الاسترهان إلى سبب لتعطيل كل سعي لتسوية تطال مستقبل فلسطين، حيث يتمسك ورثة ميليشيات المؤسسين بالقدس الموحّدة أولاً وبالمناطق الحيوية في الضفة الغربية، وجبل حرمون، باعتبارها عناوين ذات صلة بالعقيدة الصهيونية، ما جعل مسار التسوية مستحيلاً.

بالتوازي نشأت فلسطينياً خلال فترة ربع قرن مضى، تحولات حملت ولادة هياكل سلطوية ذات تطلّعات ومصالح وحسابات منفصلة عن حساب القضية الفلسطينية الأصليّة بصفتها قضية اللاجئين، حيث قطاع غزة مجرد مخيّم كبير يسكنه اللاجئون، والضفة مجموعة من المخيمات تربط بينها بلدات ومدن، والقدس الشرقية ملجأ للاجئين من القدس الغربية والأراضي المحتلة عام 48، فشطب عملياً من الحساب السياسي للمؤسسات السلطوية الفلسطينية الناشئة، مصير فلسطيني الـ48، وتراجعت مكانة اللاجئين، وحق العودة لصالح أولويّة الدولة، التي ارتبط بحلمها الموحّد أو حلميها المنفصلين بين الضفة وغزة، عدد واسع من رجال الأعمال والنخب الثقافية والحزبية والهياكل الأمنيّة والعسكريّة للفصائل الكبرى، لكن سوء حظ هذه الهياكل السلطوية وحسن حظ القضية الفلسطينية، كان بتزامن ظهورها مع هيمنة المستوطنين والمتطرفين الدينيين على دفة القرار في الكيان، وضياع فرص تسويات سياسيّة أو قيام هدنة طويلة.

شجعت التحولات الجارية في المنطقة والعالم، وخصوصاً في البيئات المؤثرة بالصراع الدائر حول فلسطين ومستقبل الكيان، وبالأخص التراجع الأميركي والصعود الإيراني وانتصار سورية ونمو قوة حزب الله، على ظهور نظرية الجدار الاستراتيجي في الكيان كتعبير عن توأمة الانكفاء في قدرة خوض الحروب مع مشروع المستوطنين والمتطرفين المرتبط بجغرافيا ما هو داخل الجدران، لكن هذه التحولات عززت بالتوازي صعود دور اللاجئين في المشهد الفلسطيني، الذين امتلكوا خلال ربع قرن مزيداً من الحضور المتنامي كماً ونوعاً في الداخل الفلسطيني والشتات وخصوصاً في عواصم الغرب، مع ظهور جيل جديد مندمج في البيئات الغربية وتمسك بالقضية ومتصالح مع أدوات التقنيات الحديثة للتواصل، بالتوازي مع تلاشي العملية السياسية للتسويات وأوهامها، وبالتوازي مع صعود توحّش مشروع الاستيطان ونتائجه داخل فلسطين، ولذلك جاءت الحرب الراهنة حرباً للاستقلال الفلسطيني فوحدت اليائسين من مشاريع التسويات السلطوية في الضفة وغزة، مع الحركة التاريخية للاجئين في أرض الـ 48 والقدس والضفة والشتات، على خلفية فائض قوة راكمته حركات المقاومة ضمن سياق صعود محور إقليمي وازن وصاعد يدعمها ويحقق الانتصارات، لتضع الكيان أمام تحدّي مواصلة الارتهان لحركة المستوطنين والمتطرفين، وما يترتب على ذلك من مزيد من العزلة الخارجيّة والتفكك الداخلي للكيان، أو الدخول في عملية فك وتركيب للمشهد السياسي للكيان يفتح الباب لعودة السياسة من البوابة المصيرية للقدس وخطط التهويد، عبر صعود جديد للنخب التقليدية البراغماتية خصوصاً العسكرية والاقتصادية.

– العقدة التي تعترض طريق العقلانية في الكيان تتمثل بصعوبة تقبل الانكماش السياسي والعسكري لحضور الكيان، من جهة، وبالتعقيد الذي تفرضه الحالة الناشئة في المناطق المحتلة عام 48 من جهة مقابلة، حيث لم تعُد ممكنة إعادتها خطوة الى الوراء، وتجاهل مستقبلها العصي على الاحتواء جغرافياً في أي تسوية تقوم على فكرة الدولتين، بمقدار استعصاء تجاهلها، وصعوبة إعادتها الى نظرية المواطنة في دولة يهودية تدّعي المدنيّة، بينما العقدة التي تعترض فرصة فوز حركات المقاومة ومن خلفها الشعب الفلسطيني بكل شرائحه كتعبير عن حركة اللاجئين، بفرض وقف للحرب رغم موازين القوى الجديدة، تتمثل بكون تراجع الكيان في القدس إعلان سقوط تاريخيّ يصعب قبوله من شريحتي المستوطنين والبنية التقليدية العسكرية والاقتصادية، رغم النزيف تحت ضغط استمرار الحرب، بحيث يصير خيار الحرب الأهلية داخل الأراضي المحتلة في القدس والضفة والـ48 وارداً بقوة، كما يصير خيار توسّع الحرب الى الإقليم احتمالاً يكبر كلما مضت على الحرب المزيد من الأيام، خصوصاً أن مشروع محور المقاومة ليس فتح الباب لدوامة التفاوض على تسوية تعيد إنعاش القوى السلطويّة مجدداً على حساب الحركة المتعاظمة التي مثلتها نهضة حضور حركة اللاجئين الأصلية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى